أزمة المثقف العربي انعكاس لأزمة مجتمعه

الحلقة الخامسة من سلسلة حلقات التنوير: "أزمة المثقف العربي"


المفكر عبد الله العروي
يقول عبد الله العروي:
إن الموضوع شائك ومتشعب، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يحيط به من كل جوانبه حتى ولو حبر المجلدات، فكيف إذا خصص له مقالة واحدة؟ لذا أعتذر مسبقا لدى القراء الكرام إذا هم لاحظوا تسرعا في بعض الاستنتاجات وشططا في بعض الأحكام، إزاء موضوع في مثل تعقيد موضوع أزمة المثقف حيث يجد الدارس نفسه أمام اختيار صعب: إما الاحتراس إلى حد الإحجام عن كل كلام، وإما الإقدام والاستعداد لتحمل لذعات النقد.
أبدأ كلامي بتقديم ملاحظات تمهيدية تحد نطاق النقاش:

أولا: حدود الموضوع:

1- أزمة المثقفين ظاهرة عامة:

يمكن القول إن ظاهرة الأزمة لا تفارق المثقف في كل مجتمع وفي كل حقبة من الحقب التاريخية. بل إن الأزمة لا تدل في الغالب على انحطاط أمة ما بقدر ما تواكب نهضة تلك الأمة من كبوتها وركودها. لدينا أمثلة مشهورة في التاريخ الغربي:
أ- الأزمة الرومانسية في ألمانيا في بداية القرن الماضي.
ب- الأزمة الواقعية في روسيا في أواسط القرن التاسع عشر.
ج- أزمة 1870 في فرنسا بعد هزيمتها أمام بروسيا.
عندما نتكلم عن أزمة المثقف العربي، فإننا نتكلم عن واقع تاريخي عادي ومنتظر ما دام العرب يعيشون نهضة منذ قرن ونصف.

2- أزمة المثقف بين المحلي والقومي:

يعيش المثقف العربي في مجتمع محلي يعرف مشكلات خاصة تؤثر حتما في ذهنيته إلا أنه يشارك في ثقافة تعم مجتمعات متعددة فمثلا المثقف اللبناني يعيش أزمة وطنه لبنان الناتجة عن البنية الطائفية ويعيش أزمة الثقافة العربية إذا كان عروبيا وفوق ذلك يعيش أزمة العالم الإسلامي إذا كان مسلما. ماذا نعني نحن بأزمة المثقف العربي وهو يعيش أكثر من أزمة واحدة؟ إننا نحاول أن نفصل بين العوامل المحلية والعوامل القومية في أزمة المثقف. ويشوب حتما هذا التمييز شيء من الذاتية. فأطلب من القارئ أن يركز معي اهتمامه على عاملين عامين، وهما السلوك واللغة حيث يكنز التراث الثقافي، وأن يغفل مؤقتا كل عامل يختلف باختلاف القطر أو البيئة أو العشيرة. هذا تضييق من نطاق الموضوع، لكنه ضروري لكي نتناول المسألة بشيء من المنهجية.

3- أزمة المثقف وأزمة المجتمع:

إن أزمة المثقف انعكاس لأزمة مجتمعه. لكن المثقف عامل فعال في المجتمع: يستطيع إما أن يخفف من الأزمة المجتمعية بدراسة أسبابها وإظهار سبل الخروج منها، وإما أن يضعفها بازمة ذاتية تهمه هو ويلهي بها ذهنه وأذهان قارئيه.
إني أخصص الكلام على أزمة المثقف الذاتية التي تجعل أزمة المجتمع أعمق وأعوص.
بهذه الملاحظات الثلاث نحصر النقاش في حدود معينة.

 ثانيا- من هو المثقف؟:

سؤال صعب لكنه ضروري. تطلق الكلمة عامة على المفكر أو المتأدب أو الباحث الجامعي، وفي بعض الأحيان حتى على المتعلم البسيط. بيد أن المفهوم لا يكون أداة للتحليل في العلوم الاجتماعية إلا إذا أطلق على شخصية تظهر في ظروف جد خاصة.

1- الثقافة العضوية:

علينا أن ننطلق من مفهوم الثقافة كما يستعمل في الانثروبولوجيا: الثقافة هي مجموع الرموز التي تعكس الحياة الجماعية انعكاسا مباشرا، لذا يكون كل عضو من أعضاء المجتمع حامل ثقافة رغم وجود أفراد متخصصين كالشاعر أو القصاص أو الطبيب أو الساحر. تسمى الثقافة في هذه الحال عضوية لأن بنيتها مطابقة لبنية المجتمع. تتضمن بالطبع تمايزات وتناقضات لكن هذه تعبر كلها على تعارضات واختلافات اجتماعية أو مهنية. تتطور الثقافة، لكن تطورا موازيا لتطور المجتمع. نتكلم هنا عن المجتمعات المنعزلة المستقلة.
لنتصور الآن حالة مجتمع خاضع لآخر، أو حالة ثقافة متفتحة على ثقافة أجنبية. لنتصور حالة فارس بعد الفتح الإسلامي أو حالة أوربا الغربية في عهد النهضة بعد اكتشاف الحضارة اليونانية القديمة أو حالة روسيا بعد إصلاح بطرس الأول. والمثال الروسي يهمنا بخاصة لأن الوضعية التي أنشأها القيصر المصلح كانت سبب إبداع كلمة جديدة تعبر بالضبط عما نعنيه بالمثقفين. تلك الكلمة هي أنتيليجنسيا فماذا تعني هذه الكلمة؟

2- وضعية أنتيليجنسيا:

تتميز الوضعية الجديدة بكون الثقافة المستوردة غير مرتبطة عضويا بالحياة الاجتماعية: منطقها مختلف وتعابيرها مختلفة، ذوقها مختلف، عما تعود عليه المجتمع الأصلي وعما يسير عليه أغلبية الناس. عوض أن تعكس الثقافة تحولات المجتمع العفوية وأن تتأثر مباشرة بتناقضاته، فهي التي تحاول أن تغير السلوك والذوق والتعبير ليعود المجتمع مطابقا لمنطقها: هذا هو مغزى السياسة الإصلاحية. عوض أن تبقى التناقضات متوازية في الثقافة وفي المجتمع، يعود التناقض الأساس هو ما يفصل المجتمع عن الثقافة، أي حاملي تلك الثقافة عن المواطنين العاديين. تعود الثقافة قبل أي شيء آخر علامة تمييزية. تتكون جماعة من عناصر مختلفة توحدهم الثقافة المكتسبة وتفصلهم عن أصولهم الاجتماعية. لهذا السبب يطرح مشكل لم يكن معروفا من قبل، وهو مشكل الرجوع إلى الأصل، والحنين إلى الوحدة المفقودة والتواصل بين المثقفين والشعب.
رمز هذه الحالة هو المزدوج (عنوان قصة دوستويفسكي) الذي يعبر عن وحدانية المثقف، وسطحية الثقافة المستعارة، والبحث عن الأستاذ الملهم الذي بقي مرتبطا بالثقافة الشعبية الأصلية.
قد يقال: ما علاقة هذا بالوضع العربي؟ لنقرأ قنديل أم هاشم ليحيى حقي أو ثلاثية نجيب محفوظ مثلا ونلاحظ في الحين أن العقدة تدور حول مشكلة المثقف المنعزل الذي يحدوه الحنين إلى وحدة المجتمع الأصيل.
ثالثا- نشأة المثقف العربي:

1- الحالة الموروثة:

الثقافة العضوية في المجتمع العربي هي بالطبع الثقافة الشعبية. لكنها لم ترق أبدا إلى مستوى التعبير والتدوين باستثناء ثقافة الجزيرة العربية التي دونت في القرن الثاني الهجري والتي أصبحت نموذجا أدبيا للمجتمعات المستعربة. أما الثقافة الإسلامية الكبرى فلا يمكن أن ننعتها بالعضوية. لنأخذ أنماط المثقفين في المجتمع القديم: الفقيه، الكاتب الأديب، المتصوف الحكيم، فنلاحظ أنهم يحملون ثقافة موروثة لا تتأثر إلا لماما بالمحيط الطبيعي والاجتماعي، فهذا أبو علي القالي يخرج من العراق ليعلم الأدب في الأندلس، وهذا ابن خلدون يخرج من المغرب ليكون قاضيا في المشرق. كل اختلاف يذوب في حضن الثقافة الواحدة. هذه حالة فصم بين الثقافة والمحيط الطبيعي والاجتماعي، عرفها التاريخ العربي القديم ولم يغير منها شيئا التاريخ الحديث. يكون المثقفون العرب جماعة مستقلة نسبيا عن المجتمع، وموحدة لأنها تحمل ثقافة مشتركة مجردة عن عوامل التمييز المحلية والزمنية. وهذا واضح في المؤتمرات العربية الراهنة حيث تلغى المميزات، فتفصل بالضرورة المشكلات الثقافية عن جذورها الاجتماعية التي لا يمكن أن تكون غير خصوصية.

2- تكوين المثقف في البلاد العربية:

هذا موضوع متشعب يهم السياسة التعليمية والتثقيفية في الوطن العربي.
أريد أن أركز على ظاهرتين فقط متعلقتين بالمسألة المطروحة:
أ- ازدواجية التكوين: تحافظ جل البلاد العربية على منهجين مختلفين: منهج تقليدي يلقن بالعربية ويحفظ التراث في جامعات دينية أو مدارس الحديث أو معاهد الوعظ والإرشاد...، ومنهج مهني متخصص يلقن جزئيا بالعربية وجزئيا أو كليا حسب الدول بلغة أجنبية، خاصة عندما يتعلق الأمر بعلوم مستحدثة كالإعلاميات.
ب- ضعف استيعاب العلوم الاجتماعية: إن العلوم الإنسانية، باستثناء الاقتصاد وما يدور في فلكه كالإحصاء، تدرس، إن هي درست، على المستوى النظري، إما البحوث التطبيقية العينية الميدانية، فإنها غير مزدهرة في جامعاتنا ومعاهدنا.. مما يفسر لنا أن العرب لم يصلوا إلى درجة الإبداع في هذه العلوم مع أنها ليست معقدة ولا تكلف تجهيزات باهظة كالطبيعيات وعلوم الحياة. ليست هذه حالة خاصة بالبلاد العربية، لم تكتشف فرنسا مثلا أهمية العلوم الاجتماعية إلا بعد الحرب العالمية الثانية رغم الدور الذي لعبته في تأسيس علم الاجتماع.
من الواضح أن الفصل بين العلوم الحديثة والعلوم الموروثة -وهذا تمييز قديم عندنا- يركز ظاهرة الفصم بين الثقافة والمجتمع، خاصة إذا كان حظ العلوم الاجتماعية ضعيفا داخل العلوم الحديثة.
لهذا السبب، إن المثقفين، التقليدي والعصري، يتعارضان في الأهداف، لكنهما يشتركان في الموقف إزاء المجتمع. كما أننا نلاحظ أن كل واحد منهما يتلقى بدون نقد ثقافة الآخر: لا يعرف المثقف التقليدي حدود العلم الحديث ولا يعرف المثقف المحدث حدود الآداب التقليدية.

3- سمات المثقف العربي:

نستخلص مما سبق الميزات التالية:
أ- البؤس. من الواضح أن المثقف العربي غير راض على الأوضاع التي يعيش فيها. كل ما يكتب من شعر أو قصة أو مقالة أو رسالة، يتسم بالنقد أو بالثورة على أنماط الحياة العربية. ماذا يرفض المثقف؟
أساسا: ضعف واستلاب المجتمع العربي. يثور المثقف المحدث على مظاهر التفكك والتناثر ويثور المثقف التقليدي على مظاهر التبعية والاغتراب. وكثيرا ما تتداخل الثورتان توجد حسب ظروف هذا البلد أو ذاك، مظاهر تستوجب السخط كالفقر، الجهل، الفوضى الإدارية، الرشوة، إنخفاض الإنتاج، عفوية التوزيع، لكن كل هذا يرجع إلى الضعف والتبعية، والبرهان الناصع على أن العرب لا يتحكمون في مصيرهم، هو تمكن الغرب من تحويل الأزمة الطاقية إلى أزمة نقدية تنقص يوميا من الثروة العربية.
ويقود البؤس كثيرا من المثقفين إلى اليأس من إصلاح شؤون المجتمع. يأس له تاريخ طويل في الفكر التقليدي (لنتذكر قولة ابن خلدون: "إذا نزل الهرم بدولة فإنه لا يرتفع")، قد يجد اليوم في حتمية العلم الحديث ما يزكيه في ذهن المثقف العربي.
ب- الجهل بالمحيط الطبيعي والتاريخي. محيط المثقف هو محيط ثقافته لا ما يحيط به ماديا وأدبيا في الوقت الحاضر. ما هو حضور الطبيعة في الأدب والفن العربيين: في الشعر، في القصة، في الرسم وفي السينما؟ سؤال يستحق أن يطرح بجد والجواب عليه يحمل أكثر من دلالة.
أما الجهل بالماضي، فإنه بلا شك تجاهل لأسباب التناثر الواقع حاليا في المجتمع العربي وخوفا من تعميقه. ينقح التاريخ، تهمل فترات، تنسى أحداث، لكي لا تنشأ انقسامات لا يقوى المجتمع حاليا على تحملها. فنسطح هكذا الثقافة الموروثة، وفي تفقير القسم الأصيل من ثقافتنا الحديثة فرصة لتوسيع القسم المستعار.
عندما يتكلم الفنانون العرب على تأصيل فنهم، وذا يعنون؟ في الغالب توظيف الحرف العربي... وأي شيء أبعد عن الطبيعة والتطور من الحرف الذي هو رمز مجرد قابل لأي تغيير؟
ويتغذى الجهل المذكور بعدم ازدهار العلوم الإنسانية عندنا كاللسنيات والتاريخ الموضوعي والاجتماعيات والنفسانيات. إن أوليات هذه العلوم تلقن، لكن بكيفية مجردة. فينتج عن ذلك ذهنية غير مرتبطة بالواقع. لنلق نظرة على الإنتاج العربي المعاصر.. رغم التحسن الذي طرأ في الخمس سنوات الأخيرة ما زالت جل المؤلفات، غير التقليدية، تلخيصا لمباديء العلوم. أما البحوث التطبيقية الميدانية فما زالت قليلة وذلك العدد القليل ينشر غالبا خارج الوطن العربي وبلغات أوروبية.
أما المثقف العربي، بسبب تكوينه المجرد، يميل إلى اعتناق أي مذهب يظهر في السوق. هذا ما عبرت عنه بالانتقائية التي لا تمثل ظاهرة انفتاح وتوازن بقدر ما تشير إلى استقلال المثقف عن مجتمعه وعدم تأثيره فيه.
إن اتجاهات المثقفين العرب متباينة جدا في الظاهر، إلا أن موقفهم المعرفي واحد.

رابعا- المثقف العربي والمجتمع:

قد يقال: إذا كانت السلبيات المذكورة نتيجة نقص، فلنغير مناهج التعليم، فكرة جيدة، لكن من يربي المربين؟ هذه هي الصعوبة التي واجهت جميع المصلحين من أفلاطون إلى ماركوز.
أكتفي هنا بالقول إنه من حسن الحظ أن الحياة غير منطقية. لو كانت كذلك لامتنع الإصلاح ولصدقت قولة ابن خلدون: "إن الهرم لا يرتفع". ثم أنبه القاريء إلى أننا عندما نحلل مشكلا ما نكشف فقط عن مستلزمات الحل، لا عن صورة تطبيق تلك المستلزمات، فهذه داخلة في نطاق السياسة والسياسة نظرية وعمل واتفاق، لا نظرية فحسب.
ما هي تلك المستلزمات؟

1- نظرة جديدة إلى اللغة:

هذا هو المشكل الأساس رغم أن الكثيرين منا يتجاهلونه. إن قضية التعريب تهم الوطن العربي بكامله والتعريب الحقيقي هو استيعاب المفاهيم لا ترجمة المفردات. فلا يقال: ليست للعربية مشكلات لأن كل لغة تعاني مشكلات، كثيرة أو قليلة، عويصة أو بسيطة. هذه الإنجليزية تعاني من صعوبات النطق والهجاء. (نذكر دعوة برنارد شو لتبسيط الهجاء الإنجليزي) وهذه الفرنسية تعاني من نقص معجمي ومن تعقيد النحو إزاء الإنجليزية وحتى إزاء الإسبانية. وهذه الصينية تعاني من مشكلات الكتابة (أنظر تصريحات شو إن لاي للصحفي الأمريكي جيمس رسطون).
مشكلة اللغة معقدة جدا. لا أحد يملك لها حلولا سحرية، ولا يوجد مسؤول يقبل أن يخاطر بأثمن كنز يملكه العرب حاليا. بيد أني لا أتصور مثقفا عربيا مرتبطا بمجتمعه، واعيا بقوميته، يتطلع إلى المستوى العالمي، دون أن تتوفر لديه وسيلة للتعبير عصرية وطيعة.

2- دراسة مستجدة للتراث:

الهدف منها الاقتصاد في المجهود والاتجاه نحو الإبداع.
أكتفي بالإشارة إلى أمرين:
أ- إستخدام الإعلاميات وآثارها على دور الحفظ. لا حاجة لنا في طبع آلاف الصفحات من الحديث أو السنن أو الدواوين الشعرية إذا كانت الفروق بين المؤلفات طفيفة. يجب خزنها الناظمات الإلكترونية والرجوع إليها عند الحاجة وبهدف المقارنة.
ب- إدخال عامل الزمن للتمييز بين الكم والكيف في الإنتاج التقليدي قد نجد عشرات، بل مئات المؤلفات في موضوع واحد "الخلافة، القدر..مثلا"، داخل إشكالية واحدة. فتعود الاختلافات في الجزئيات غير مهمة ما دامت الإشكالية تحدد مسبقا جميع الأجوبة الممكنة. هذا ما تدلنا عليه الإبستمولوجيا الحديثة. فالتخصص في تلك الجزئيات قد لا يغني الوضع الثقافي العام عندنا.

3- التكيف مع المحيط:

شرط أساسي لإبداع البيت العربي العصري والمدينة العربية، والفن المعماري العربي، وكذلك ليوافق الإنتاج الذوق العربي، ولتلائم وسائل الترفيه، الجو العربي.
في هذا الميدان يجد مفهوم الأصالة النطاق الملائم له. ونستدل على أن الاعتماد على الموروث قد يفتح الطريق إلى الإبداع بتجارب أجنبية ناجحة منها:
- استغلال عادات الصناع التقليديين في إيطاليا لتطوير صناعة الأثاث.
- الطب التقليدي في الصين.
المعمار التقليدي في اليابان (أنظر المباريات العالمية لتشييد المعاهد الإسلامية).
ولكي يتحقق التواصل بين الماضي والمستقبل في إطار استمرارية خلاقة لا بد من استيعاب العلوم الاجتماعية وتطبيقها على واقعنا بدون إحجام ولا تردد. أو بعبارة أخرى لا بد من توسيع مفهوم التخطيط من الميدان المالي والإنتاجي إلى الميدان الاجتماعي.

خامسا- خلاصة:

أنهي كلامي بملاحظتين:
أ- أولا: أتساءل ككثير من المثقفين العرب عن الهوية. أليس في الخطة المقترحة خطر على الشخصية العربية؟ سؤال مشروع يراه كل منا في ضوء ما يضعه هو في مقدمة الأخطار المحدقة اليوم بالمجموعة العربية. أضع شخصيا في مقدمة الأخطار تناثر المجتمعات العربية وانتقائية المثقف العربي. أما الشخصية العربية فإنني أعتقد أنها متميزة إلى حد لم يعد من الضروري حمايتها أو الخوف عليها. فهي واضحة المعالم مهما تعددت التحولات وتعمقت التغييرات. وأرى في المقترحات السابقة، وفي المقترح الثالث بخاصة، أضمن وسيلة لتكريس الهوية العربية مع تحقيق التطور: عندما يتهيأ الفرد العربي للإبداع في مجالات شتى فإنه سبستقل بالضرورة عن كثير من المؤثرات الخارجية، عكس ما هو حاصل اليوم.
ب- ثانيا: أقارن بين حالة المثقفين العرب وحالة غيرهم. وقلت في التمهيد إن القضية كثيرا ما وردت في التاريخ. والآن؟ هل هناك أزمة مثقفين في الصين، في اليابان، في أفريقيا..؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال في بضعة سطور. هذا الميدان واسع وغني، للمقارنة بين مشكلاتنا ومشكلات الغير، القريب منا والبعيد. وقد نستنتج من المقارنة ما يجعلنا ندخل النسبية على كثير من أحكامنا: نبرز مضمونها ثم نقلل من خطورتها. لأن أزمة المثقفين عامة رغم خصوصية أشكالها وتفاوت حدتها من حضارة إلى حضارة.
لقد وضعت شروطا لا لنلغي الأزمة نهائيا، بل لنغير صورتها ولنقلل من حدتها، بعبارة أخرى لتعود مواكبة لأزمات المجتمع المتغيرة دون أن نضعفها ونلهي الناس عنها.
وإذا ما لم تتحقق تلك الشروط، سيعيش المجتمع العربي كل مشكلاته وأزماته، يتغلب على بعضها ويخلق أزمات أخرى بسبب ذلك النجاح ذاته. إلا أن المثقفين لن يلعبوا دورا متميزا في حل تلك المشكلات.
ما دام المثقفون منفصلين نسبيا عن مجتمعهم فإن أزمتهم تهمهم هم في الدرجة الأولى، وتهم عرضا المجتمع. إلا أن فرصا تضيع وإمكانيات تجمد.
والمجتمع يسير إلى ما قدر له.

عبد الله العروي، مقال "أزمة المثقف العربي" ضمن كتاب ثقافتنا في ضوء التاريخ

إرسال تعليق

أحدث أقدم