عنوان المقال: تاريخ الأدارسة بمركزية مورية
عبد الخالق كلاب
إن ما وصلنا بخصوص تأسيس الدولة الإدريسية على يد عربي، هو رواية ذات مركزية مشرقية، وهذا يقتضي منا إعادة قراءتها بمركزية مغربية تكشف حقيقة ما جرى فعلاً، فما نعرفه عن إمارة الأدارسة ليس تاريخاً، بل هو ما ادعاه المؤرخون انطلاقاً من ميولهم ونزوعهم المشرقي.
والحقيقة أن الروايات ذات المركزية المشرقية درجت على اعتبار المشروع الأَوربي إمارة إدريسية، وقامت بإقصاء الروايات التي تبرز أَورَبَةَ الإمارة، فراشد كان هو صاحب المشروع وليس إدريس، كما يستشف من كلام صاحب الاستبصار بقوله: "أن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضه، انهزم في وقيعة فخ سنة 169هـ [786م]، فاستتر مدة، وألح السلطان في طلبه، وضاقت عليه المذاهب، ورغب في الهروب من بلاد المشرق، فخرج معه راشد، وكان من موالي العلويين وأصله من البربر ليثور به في قومه" ، هذا يبرز أن راشد كان حاملا لمشروع تأسيس إمارة، سيما أن المجال الأَوربي كان مؤهلاً للقيام بهذا الدور، لأن أوربة كان لها شأن عظيم في المغرب حسب رواية صاحب الاستبصار، بقوله: "وكانت أوربة إذاك من أعظم قبائل المغرب، وكانت لها مدن كثيرة، منها مدينة سكوما (...) وكانت مدينة عظيمة، لم يكن بالغرب أعظم منها" .
ولا شك أن رغبة أوربة في تأسيس إمارة، ارتبط بالسياق العام الذي ميز المغرب آنذاك، إذ نشأت به إمارات محلية أسسها الأمازيغ، منها إمارة بني صالح بنكور، وإمارة برغواطة بتامسنا، وإمارة بني عصام بسبتة، وإمارة بني مدرار بسجلماسة، فكان طموح أوربة هو تأسيس إمارة تحمي مجالها، وتضمن استمرارها، والحفاظ على شخصيتها.
وقد عاشت إمارة أوربة تاريخاً مضطرباً، توزعت أطوارها بين وليلي (172-192)، وفاس (192-313هـ)، والبصرة وحجر النسر (313-363هـ)، والمنفى بالأندلس (364-365هـ)، والمنفى بالإسكندرية (365-373هـ).
1-في وليلي (172-192)
قدم إدريس إلى المغرب في سياق دعوة آل علي المناهضة لدعوة بني عمومتهم آل العباس، ففي سنة خمس وأربعين ومئة، قام الأمام محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على أبي جعفر المنصور العباسي بالحجاز منكرا لجوره وتعسفه، وأرسل إخوته إلى الأمصار دعاة له "بعث عيسى إلى أفريقية، فأجابه بها خلق كثير من قبائل البربر، وبقي هناك إلى أن توفي ولم يتم الأمر، وبعث أخاه يحيى إلى خراسان، فأقام بها حتى مات أخوه محمد، ففر إلى بلاد الديلم فأسلم على يديه خلق كثير، ودعا لنفسه فبايعه عالم عظيم فقوي أمره (...) وبعث أيضا أخاه سليمان إلى بلاد مصر داعيا للبيعة، ولما اتصل به قتل أخيه سار إلى بلاد النوبة، ثم إلى بلاد السودان، ثم خرج إلى زاب إفريقية، ثم سار إلى تلمسان من بلاد المغرب فنزلها، واستوطنها (...) وبعث أخاه ابراهيم إلى البصرة، فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس" .
وفي سنة تسع وستين ومئة استعرت الحرب بين العباسيين والعلويين، وفي هذا السياق يقول ابن أبي زرع الفاسي: "ثم خرج في أيام الخليفة الهادي الحسين بن على بن الحسن المثلث بن الحسن المثنى، وذلك في سنة تسع وستين ومئة، وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وكان قدم حاجا من البصرة فولاه حربه، فقاتله يوم التروية بفخ على ثلاثة أميال من مكة، وهزمه، وقتله، وافترق أصحابه وكان فيهم عمه إدريس بن عبد الله الكامل، وبقي القتلى من أصحابه في موضع المعركة حتى أكلتهم الطيور والسباع لكثرتهم" .
بعد هزيمة العلويين في معركة فخ، وتضييق العباسيين الخناق عليهم بالمشرق كله، فر إدريس بنفسه يريد المغرب، فوصل طنجة بمعية راشد عام سبعين ومئة، فلم يجد فيها مرادها ، ثم نزل مدينة وليلي قاعدة جبل زرهون على صاحبها اسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي المعتزلي عام اثنين وسبعين ومائة ، وتابعه على مذهبه .
ويذهب صاحب الاستبصار إلى ما يفيد أن راشدا استغل نكبة العلويين، فاستقدم إدريس لإقامة دولة لقومه بقوله: " أن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضه انهزم في وقيعة فخ سنة 169 [786] فاستتر مدة، وألح السلطان في طلبه، وضاقت عليه المذاهب، ورغب في الهروب من بلاد المشرق، فخرج معه راشد، وكان من موالي العلويين وأصله من البربر ليثور به في قومه" . إن هذه الرواية تفيد بأن أهل الغرب استقدموا إدريس، وسيروه زعيما لكي يستأسدوا به عمن سواهم، وهذا يوحي إلى أن المنطقة التي خضعت للأدارسة كانت محط أطماع القوى السياسية المحيطة بها، المتمثلة في إمارتي بني مدرار بسجلماسة وبرغواطة بتامسنا.
وبذلك، كان لا مناص من البحث عن زعيم تجتمع إليه سائر القبائل، في إطار تعاقد واضح، قضى أولا باتباع إدريس لمذهب زعيم قبيلة أوربة حسبما ورد في رواية أبي عبيد الله البكري، بقوله: "فنزل على إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوربي المعتزلي، فتابعه على مذهبه" ، وفي المقابل بايعت أوربة المولى إدريس "بايعوه على الإمارة والقيام بأمرهم وصلواتهم وغزوهم وأحكامهم (...) ثم بعد ذلك أتته قبائل زواغة وزورارة ولماية وسدراتة وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة، فبايعوه، ودخلوا في طاعته (...) ووفد عليه الوفود من سائر البلدان وقصد إليه الناس من كل صقع ومكان" .
والحقيقة أن إدريس لم يكن له من الأمر شيء، لأن بيعته كانت مشروطة بموافقة زعيم أوربة على رأيه ومذهبه، وهذا ما صرح به صاحب الاستبصار بقوله: "وكان إسحاق بن محمد الأوربي معتزلي المذهب، فوافقه إدريس على مذهبه، وأقام عنده" .
في إطار هذا التعاقد قوي أمر إدريس، واشتد سلطانه، وفي هذا السياق يتدخل الإخباري، ليخبرنا ببطولات إدريس كما تصورها، لا كما وقعت بالضبط، بالقول أن إدريس: "أخذ جيشا عظيما من وجوه قبائل زناتة وأوربة وصنهاجة وهوارة وغيرهم، فخرج بهم غازيا إلى بلاد تامسنا، فنزل أولا شالة ففتحها، ثم فتح بعدها سائر بلاد تامسنا، ثم سار إلى بلاد تادلة، ففتح معاقلها وحصونها، وكان أكثر هذه البلاد على دين النصرانية ودين اليهودية والإسلام بها قليل، فأسلم جميعهم على يديه، ثم قفل إلى مدينة وليلي، فدخلها في آخر شهر ذي الحجة من سنة اثنين وسبعين المذكورة، فأقام بها شهر محرم مفتتح سنة ثلاث وسبعين حتى استراح الناس، فخرج برسم غزو من بقي بالمغرب من البربر (...) وهدم معاقلهم منها حصون فندلاوة وحصون مديونة وبهلولة وقلع غياثة وبلاد فازاز، ثم رجع إلى مدينة وليلي فدخلها في النصف من جمادى الأخيرة سنة ثلاث وسبعين المذكورة، فأقام بها بقية جمادى المذكورة والنصف من رجب التالي له حتى استراح جيشه " .
بعد سلسلة من الأعمال العسكرية المذكورة، يستأنف الإخباري سرد وقائع "غزوات إدريس"، لتلمسان ومن بها من مغراوة، فوصلها "ونزل بخارجها، فأتاه أميرها محمد بن خزر بن صولات المغراوي الخزري، فطلب منه الأمان، فأمنه إدريس، وبايعه محمد بن خزر وجميع من معه بتلمسان من قبائل زناتة، فدخل إدريس المدينة صلحا، وأمن أهلها، وبنى مسجدها، وأتقنه، وصنع فيه منبرا، وكتب عليه باسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر به إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وذلك في شهر صفر سنة أربع وسبعين ومئة" .
وقد أثار دخول إدريس إلى مدينة تلمسان تخوف العباسيين، ففي نظرهم يعد هذا الحدث تحولا في مسار دعوة آل علي، وخطوة في اتجاه إعلان الخلافة العلوية، وغزو المشرق، فقد اعتبر الخليفة الرشيد أن تلمسان هي باب المشرق ومن ملك الباب يوشك أن يدخل الدار ، "فخاف الرشيد أن يعظم أمره، فيصل إليه لما يعلم من فضله وكماله ومحبة الناس في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاغتم لذلك غما شديدا" ، فوجه إليه رجلا من مواليه يقال له الشماخ اغتاله غدرا .
إن اغتيال إدريس يدخل حسب الإخباريين في سياق ترصد العباسيين لآل علي في مشرق الأرض ومغربها، فبعد مقتلة فخ سنة 169هـ التي ذهب ضحيتها خلق كثير من آل علي، دبر العباسيون مكيدة اغتيال إدريس لوأد دعوته، والقضاء على دولته، ولم يقف بهم الحد عند اغتيال إدريس، بل دبروا أيضا مكيدة اغتيال مولاه راشد الذي قام بالأمر بعده وبتربية ابنه إدريس وإعداده للملك، وفي هذا الصدد قال المشرفي: "وقام بأمر الجيش بعده مولاه راشدا أحد عشر عاما، وتوفي عام ستة وثمانين ومائة قتله بعض البربر بدسيسة من إبراهيم بن الأغلب عامل إفريقية لبني العباس" . "وقام بأمر الغلام أبو خالد يزيد بن إلياس الفارسي، وأخذ بيعة البربر له يوم الجمعة السابع من ربيع الأول سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن إحدى عشر سنة" .
إن تدبير مكيدة اغتيال إدريس الأول، يمكن تفسيرها أيضاً بتخوف العباسيين من المغاربة، فذكرى وقعة الأشرف التي تسببت في انهيار الدولة الأموية، ظلت حية في وجدان المشارقة، لذلك بادروا إلى وأد مشروع إمارة أوربة في مهده، قبل أن يشتد عوده، ويشكل خطراً على الوجود العباسي بأفريقية.
نخلص إلى إن إدريس نجا من معركة فخ سنة 169هـ، وقدم إلى المغرب عام 170هـ، وبويع عام 172هـ من طرف أوربة وسائر القبائل الأمازيغية، وأسس إمارة امتدت من السوس الأقصى إلى تلمسان، واغتيل من طرف العباسيين سنة 175هـ أو 177هـ، وبذلك فمدة حكمه دامت ثلاث سنوات حسب أبي عبيد الله البكري وصاحب الاستبصار، ودامت خمس سنوات حسب ابن أبي زرع الفاسي، توفي إدريس وزوجته حبلى، ولما وضعت حملها، وبلغ من العمر إحدى عشر عاما بويع له عام سبعة وثمانين ومائة.
2-في فاس (192-313)
بويع إدريس بن إدريس عام سبع وثمانين ومائة، وهو ابن إحدى عشرة سنة، وفي ذلك قال أبو عبيد الله البكري: "ومات إدريس ولا ولد له وجارية من جواريه حُبلى، فقام راشد بأمر البربر حتى ولدت غلاما، فسماه باسم أبيه، وقام بأمره، وأدبه، وأحسن تأديبه، وكان مولده في ربيع الآخر سنة خمس وسبعين ومائة، وتوفي راشد سنة ست وثمانين ومائة (...) وقام بأمر الغلام أبو خالد يزيد بن ألياس (...)، وأخذ بيعة البربر له يوم الجمعة السابع من ربيع الأول سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن إحدى عشرة سنة" .
لا شك أن بيعة إدريس الثاني (187-213) كانت هي الأخرى مشروطة، وهذا ما جعله يحس بالضيق، خاصة وأنه "كان فريداً بين البربر ليس معه عربي" ، ولعل هذا ما جعله يستقوي بأفاريق من العرب، بلغ عدد أفرادها خمسمائة من الأزد وبني يحصب والصدف ومدلج، فاستوزر منهم، واستقضى، وأقصى أوربة، وقتل زعيمها، وبعث رأسه إلى المشرق، بعد أن اتهمه بموالاة بني الأغلب، وفي هذا الشأن قال ابن خلدون: "واستوز إدريس مصعب بن عيسى الأزدي (...) ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة، فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه، ثم قتل كبير أوربة إسحق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحس بموالاة إبراهيم بن الأغلب" ، وقال البكري: "وقتل [إدريس الثاني] أبا ليلى إسحاق وهو القائم به وأبيه يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ومائة، وبعث رأسه إلى المشرق" .
برر ابن خلدون قتل إدريس الثاني لزعيم قبيلة أوربة بموالاته لبني الأغلب، وهذا أمر لا يستقيم، لأن إدريس كان آنذاك صغير السن عمر لا يتجاوز 16 عاماً، ولا يستبعد أن يكون قتل زعيم أوربة له صلة بوفود العرب، خاصة أن أولئك العرب الذين وفدوا على إدريس الثاني، أتوا من أفريقية مقر حكم الأغالبة، ولا شك أنه كان لهم تأثير على قرارات إدريس، إذ لا نستبعد إيعازهم له بقتل زعيم قبيلة أوربة، ومداخلة بني الأغلب بأفريقية، وفي هذا الصدد قال ابن خلدون: "واستراب إدريس بالبرابرة، فصالح إبراهيم بن الأغلب، وسكن غربه، وعجز الأغالبة من بعد ذلك على مدافعة هؤلاء الأدارسة، ودافعوا خلفاء بني العباس بالمعاذير بالغض من إدريس والقدح في نسبه إلى أبيه" ، ومباشرة بعد قتل زعيم قبيلة أوربة، انتقل إدريس الثاني إلى مدينة فاس سنة 192هـ، وهنا ينبغي طرح السؤال الآتي: هل فاس من تأسيس إدريس الثاني؟
تؤكد السردية التاريخية المتداولة، أن إدريس بن إدريس اختط مدينة فاس، وشرع في بنائها عام 192هـ، وقد بنيت السردية المذكورة على رواية ابن أبي زرع الفاسي الذي عاش في القرن 8هـ/14م، قال المؤرخ المذكور "وكان تأسيس الإمام إدريس لمدينة فاس على ما ذكره المؤرخون، الذين اعتنوا بتاريخها، وأنبأوا عن ابتداء أمرها، في يوم الخميس غرة ربيع الأول عام اثنين وتسعين ومئة [4 يناير 808م]، أسس عدوة الأندلس منها، وأدار بها السور، وبعدها بسنة أسست عدوة القرويين وذلك غرة ربيع الآخر من سنة ثلاث وتسعين ومئة [22 يناير 809م]" .
فعدوة الأندلسيين، كان يستوطنها الأندلسيون الذين أوقع بهم الحكم بن هشام الأموي وطردهم إلى بر العدوة، "وكانوا ثمانية آلاف بيت، فنزلوا عدوة الأندلس، وشرعوا بها في البناء يمينا وشمالا" ، وقد أورد الذهبي أحداث ثورة أهل الربض على الحكم بن هشام بن عبد الرحمان وإيقاعه بهم، وجوازهم إلى العدوة فرارا من بطشه بقوله: "وكانت وقعة هائلة شنيعة، مضى فيها عدد كثير زهاء عن أربعين ألفاً من أهل الربض، وعاينوا البلاء من قدامهم ومن خلفهم، فتداعوا بالطاعة، وأذعنوا ولاذوا بالعفو، فعفا عنهم على أن يخرجوا من قرطبة، ففعلوا وهدمت ديارهم ومساجدهم، ونزل ألوف بطليطلة وخلق في الثغور، وجاز آخرون البحر، ونزلوا بلاد البربر، وتبت جمع بفاس، وابتنوا على ساحلها مدينة غلب على اسمها مدينة الأندلس" .
ولا شك أن الأندلسيين الذي وفدوا إلى فاس كانوا من أصول أمازيغية، أما العرب فقد عادوا إلى المشرق، واستوطنوا الإسكندرية حسبما أورده ابن القوطية بقوله: "وانخزلت منهم طائفة كبيرة نحو الخمسة العشر الألف [15000]، وركبوا البحر حتى أتوا الإسكندرية، فملكوها، وسطوا بأهلها سطوة منكرة، وحملوا السيف على أكثر أهلها" .
ويرجع ابن أبي زرع الفاسي بناء مدينة فاس إلى ضيق مجال وليلي بسبب وفود القبائل إليه، بقوله: "وفي سنة تسع وثمانين ومئة، وفدت على إدريس رضي الله عنه وفود العرب من بلاد إفريقية وبلاد الأندلس في نحو الخمسمئة فارس من القيسية والأزد ومدلج وبني يحصب والصدف وغيرهم، فسر إدريس بوفادتهم، وأجزل صلاتهم، وقربهم، ورفع منازلهم، وجعلهم بطانته دون البربر، فاعتز بهم لأنه كان فريدا بين البربر ليس معه عربي (...) ولم تزل الوفود تقدم عليه من العرب والبربر من جميع الآفاق، فكثر الناس، وضاقت بهم مدينة وليلي، فلما رأى إدريس رضي الله عنه أن الأمر قد استقام له، وعظم ملكه، وكثر جيشه، وضاقت بهم المدينة، عزم على الانتقال عنها، وأراد أن يبني مدينة يسكنها هو وخاصته وجنوده ووجوه أهل دولته" .
ما قدمه ابن أبي زرع الفاسي، هو رواية اعتمدت في بناء السردية التاريخية المتداولة اليوم، سردية تنسب تأسيس فاس إلى إدريس الثاني، وتجعل العرب أصحاب ذلك المشروع، والواقع خلاف ذلك، لأن فاس كانت موجودة قبل مجيء إدريس الأول، وذلك حسب إخباريين أقدم زمنياً من المؤرخ المذكور.
فأثناء حديث البكري عن استقدام راشد لإدريس، قال: "فركب إدريس مع راشد حتى إذا قربا من إفريقية، تركا دخولها، وسارا في بلاد البربر حتى انتهيا إلى بلاد فاس وطنجة، فأقام إدريس بين ظهراني البربر" ، والمقصود هنا ببلاد فاس وطنجة، هو المدينة والبلد معاً، فالمعلوم أن طنجة كانت تطلق على المدينة وعلى المجال المحيط بها، ولا شك أن فاسا أيضاً كانت تطلق على مدينة فاس ومحيطها.
وذكر البكري أيضا أن إدريس الثاني نزل مدينة فاس بعد قتله لزعيم قبيلة أوربة، بقوله: "وقتل أبا ليلى إسحاق وهو القائم به وبأبيه يوم السبت لست خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ومائة، وبعث رأسه إلى المشرق مع أحمد وسليمان ابني عبد الرحمن، ثم نزل مدينة فاس" .
وهناك رواية لصاحب كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، الذي عاش في القرن 6هـ/12م، أكد فيها وجود فاس قبل بيعة إدريس الثاني، بقوله: "ثم مشى إدريس بن إدريس نحو فاس، فاستوطنها، واتخذها دار مملكة" .
وهذا دليل واضح على أن فاسا كانت موجودة، وأن إدريس شيد، وأضاف، ولم يؤسس، وهذا ما أكده ابن خلدون بقوله: "وكانت فاس موضعاً لبني يوغثن وبني الخير من وزاغة (...) ثم جاء إلى فاس، وضرب أبنيته بكزواوة، وشرع في بنائها، فاختط عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين، وفي سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين، وبنى مساكنه" .
وهنا نتساءل لماذا تم اعتماد رواية ابن أبي زرع في بناء السردية التاريخية، وتم استبعاد رواية البكري وصاحب كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، علماً أنهما الأقرب زمنياً؟ إن الأمر هنا يتعلق بموقف سياسي واضح، فابن أبي زرع عاش في كنف الدولة المرينية التي قربت "الشرفاء"، واعتمدت عليهم لاكتساب مشروعية الحكم، لأن دولتهم لم تتبنى مرجعية دينية منذ تأسيسها بخلاف المرابطين والموحدين، والذين يروجون هذه السردية التاريخية اليوم، ويسعون إلى فرضها، ينتمون إلى التيار العروبي، الذي يلغي فعل المور، وينسب كل فعل في التاريخ وكل إنتاج حضاري إلى المشرق، تيار لا يحس بالانتماء إلى هذا الوطن، ويسعى جاهداً إلى نزعنا هويتنا.
استأنف إدريس بن إدريس مشروع إقامة إمارة قوية، وهكذا ففي "سنة سبع وتسعين ومئة (...) خرج إلى غزو نفيس وبلاد المصامدة، فوصل إليها، فدخل مدينة نفيس ومدينة أغمات، وفتح سائر بلاد المصامدة، ورجع إلى فاس، فأقام بها إلى شهر المحرم من سنة تسع وتسعين ومئة، فخرج منها برسم غزو قبائل نفزة، فسار حتى غلب عليهم" .
وبعد ذلك "دخل مدينة تلمسان، فنظر في أحوالها، وأصلح أسوارها وجامعها، وصنع فيه منبرا، قال أبو مروان عبد الملك الوراق، دخلت مسجد تلمسان في سنة خمس وخمسن ومئتين، فرأيت في رأس منبرها لوحاً من بقية منبر قديم قد سمر عليه هناك مكتوب فيه: هذا ما أمر به الإمام إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم في شهر المحرم سنة تسع وتسعين ومئة، فأقام إدريس رضي الله عنه بمدينة تلمسان وأحوازها ثلاث سنين، ثم رجع إلى مدينة فاس" .
توفي إدريس بن إدريس سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، و"ترك من الولد اثني عشر، وهم محمد، وأحمد، وعبد الله، وعيسى، وإدريس، وجعفر، ويحيى، وحمزة، وعبد الله، والقاسم، وداود، وعمر" .
وقد اختلف في مكان وفاته وموضع دفنه، فأبو عبيد البكري ذكر أن وفاته كانت بوليلي ، أما ابن أبي زرع الفاسي، فذكر أن وفاته كانت بمدينة فاس بقوله: "ثم رجع إلى مدينة فاس، فلم يزل بها إلى أن توفي رحمه الله سنة ثلاث عشرة ومئتين (...) ودفن بمسجده بإزاء الحائط الشرقي منها، ودفن بقبلتها" ، وفي زمن السلطان مولاي إسماعيل العلوي عثر على قبر إدريس بن إدريس بمسجد الشرفاء بفاس، وفي هذا الصدد قال القادري في كتاب نشر المثاني: "ولما أراد الله تعالى إظهار قبر هذه البضعة (...) كان السبق لإظهاره كما هو مكتوب في المرمرة التي موالية له في الحائط، ونص المراد منها؛ ولما قضى نحبه أي الإمام إدريس باني فاس، دفن بإزاء بلدهم الكبيرة الحرمة الشهيرة بمسجد الشرفاء، ولم يعينوا موضع قبره إلى أن أراد الله تعالى إظهاره رحمة ولطفا خص به هذه الأمة، فاتفق أن اختير أساس حائط القبلة من الجانب الأيسر (...) فعثر على القبر الكريم الأطهر، ووجد اللحد قد أبلت الليالي رسمه فلم يبق منه إلا قليل، والعظم المرحوم باق بحاله لم يكن للأرض عليه سبيل" .
إن قدوم تلك القلة القليلة من العرب، خلق أزمة سياسية داخل إمارة أوربة، الأمر الذي عجل بزوالها، إذ تفككت بعد وفاة إدريس الثاني إلى ولايات تقاسمها أبناؤه، ثم انحصر ظلها بعد ذلك، ووطئتها جيوش الفاطميين وجيوش الأندلس، فباء مشروع أوربة بالفشل، إن تجربة أوربة تعد بحق درساً ينبغي الرجوع إليه، لاستخلاص أهمية الاعتماد على الذات المغربية في بناء المشاريع السياسية الناجحة.
بعد وفاة إدريس الثاني تولى ابنه محمد الحكم (213-221هـ)، "وفرق البلاد على إخوته برأي جدته كنزة، واتخذ مدينة فاس عاصمة لإمارته" ، فـ"ولى أخاه القاسم مدينة طنجة وسبتة وقلعة حجر النسر ومدينة تطوان وبلاد مصمودة وما والى ذلك من البلاد والقبائل، وولى أخاه داوود بلاد هوارة وبلاد تسول ومكناسة وجبال غياثة وتازة، وولى أخاه عيسى على شالة وسلا وأزمور وتامسنا وما والى ذلك من القبائل، وولى أخاه يحيى مدينة البصرة ومدينة أصيلة ومدينة العرائش إلى بلاد ورغة، وولى أخاه عمر مدينة تيكساس ومدينة ترغة وبلاد صنهاجة وغمارة وما والاها، وولى أخاه أحمد مدينة مكناسة وبلاد فازاز ومدينة تادلة، وولى أخاه عبد الله مدينة أغمات وبلاد نفيس وبلاد المصامدة والسوس، وولى أخاه حمزة مدينة تلمسان وأعمالها (...) وتصاغر الباقون عن الولاية فبقوا في كفالة جدتهم مع أخيهم محمد الأكبر" .
إن تقسيم محمد بلاد المغرب بين إخوته بتدبير جدته كنزة، يعد دليلاً على تقاعسه وعدم كفايته، ودرايته بأمور السياسة والحكم، لذلك فأمور الحكم والسلطنة في عهده طبعت بنزوع إخوته إلى الانتزاء بحكم ما في حوزهم من مجالات اعتبروها إرثاً خالصاً، وفي هذا الصدد قال صاحب الاستبصار متحدثا عن الأمير محمد: "فاستوطن مدينة فاس، وفرق البلاد على إخوته، وفعل ذلك برأي جدته كنزة أم إدريس، ويقال إنه خالف عليه بعض إخوانه، وكانت حروب يطول وصفها" ، وكان الأمير الذي انتزى هو عيسى صاحب شالة وسلا وأزمور وتامسنا وما والى ذلك من القبائل.
وصف ابن أبي زرع الفاسي انتزاء الأمير عيسى بقوله: "خرج على الإمام محمد أخوه عيسى بمدينة شالة ومدينة تامسنا، ونكث طاعته، ونبذ بيعته، واستبد بنفسه، فكتب الإمام محمد إلى أخيه القاسم صاحب طنجة وسبتة يأمره بحربه، فامتنع من ذلك، وأحجم عنه، فكتب الإمام محمد إلى أخيه عمر صاحب مدينة تيكساس وبلاد غمارة بمثل ما كتب به للقاسم، فامتثل أمره، وسارع إليه، وجمع عسكراً عظيما من قبائل البربر من غمارة وأوربة وصنهاجة وغيرهم، وسار نحو عيسى، فلما قرب من أحوازه، كتب إلى أخيه محمد، يستمده بألف فارس من قبائل زناتة وفرسانهم، فمضى عمر لوجهه، فأوقع بأخيه عيسى، وهزمه هزيمة عظيمة، وأخرجه عن مدينة شالة وسائر أعمالها، وكتب إلى أخيه محمد بالفتح والهزيمة، فكتب إليه الأمير محمد يشكر فعله، ويوليه عمله، ويأمره بالمسير إلى قتال أخيه القاسم الذي عصى أمره، وامتنع من حرب عيسى، فسار الأمير عمر بجيوشه إلى قتال أخيه القاسم حتى نزل عليه بمدينة طنجة، فخرج القاسم، واحتوى عمر على ما بيده من البلاد" .
إن استنجاد الأمير محمد بأخيه عمر لمحاربة أخويهما عيسى والقاسم، يؤكد تقاعسه عن القيام بأمور الدولة، وهذا أعطى الفرصة لبروز الأمير عمر، الذي أصبح مجال نفوذه بعد حربه على أخويه، وانتزاع مجالاتهما، يشمل مدينة طنجة، وسبتة، وقلعة حجر النسر، ومدينة تطوان، وبلاد المصامدة، وما والى ذلك من البلاد والقبائل، وشالة، وسلا، وأزمور، وتامسنا، وما والى ذلك من القبائل، ومدينة تيكساس، ومدينة ترغة، وبلاد صنهاجة، وغمارة، وما والاها، وعمر هذا هو جد الأدارسة الحموديين الذين أقاموا دولة لهم بالأندلس بعد زوال الدولة العامرية، توفي ببلد صنهاجة، ونقل إلى مدينة فاس، فدفن بها ، وذلك قبل وفاة أخيه محمد بسبعة أشهر ، وبعده توفي الأمير محمد بن إدريس بن إدريس بمدينة فاس ودفن بشرقي جامعها مع أبيه وأخيه سنة 221هـ، وتولى الحكم بعده ابنه عليا .
هو الأمير علي بن محمد بن إدريس بن إدريس (221-234هـ)، بويع يوم وفاة أبيه باستخلافه له في حياته، وسنة يوم بويع تسعة أعوام وأربعة أشهر (...) وسار بسيرة أبيه وجده في العدل والفضل والدين والحزم، وإقامة الحق، وتأسيس البلاد، وقمع الأعداء وضبط البلاد والثغور، فكان الناس بالمغرب في زمانه في أمن ودعة إلى أن توفي في شهر رجب من سنة أربع وثلاثين ومئتين [فبراير 849]، فكانت أيامه بالمغرب نحو الثلاث عشرة سنة، وولي أخوه يحيى بن محمد .
تولى يحيى بن محمد الحكم بعد وفاة أخيه علي سنة 234هـ، عرفت فاس نهضة عمرانية زمن حكمه؛ فـ"في أيامه كثرت العمارة بفاس، وقصد إليه الناس من الأندلس وأفريقية وجميع بلاد المغرب، فضاقت بسكانها، فبنى الناس الأرباض بخارجها، وبنى الأمير يحيى بها الحمامات والفنادق للتجار وغيرهم، وفي أيامه بني جامع القرويين" ، واقتفى يحيى نهج والده محمد ابن إدريس، فقام بتقسيم البلاد بين أعمامه وأخواله، وفي هذا الشأن قال ابن عذاري: "فولى يحيى أعمامه وأخواله أعمالاً؛ فولى حسينا القبلة من مدينة فاس إلى أغمات، وولى داود المشرق من مدينة فاس: مكناسة، وهوارة، وصدينة، وولى القاسم غربي فاس: لماية وكتامة، وتشاغل يحيى عما كان يحق عليه من سياسة أمره، فملك إخوته أنفسهم، واستمالوا القبائل، وقالوا لهم: إنما نحن أبناء أب واحد، وقد ترون ما صار إليه أخونا يحيى من إضاعة أمره، فقدمهم البربر على أنفسهم تقديماً كلياً" .
تتفق المصادر أن يحيى أضاع الحزم، وأساء السيرة، فأبو عبيد الله البكري قال: أن يحيى دخل على يهودية في الحمام يقال لها حنة، وقد راودها على نفسها، فتغير عليه أهل فاس، ووثب عليه عبد الرحمن بن سهل الجذامي (...) فأخرجه عن مدينة فاس، فهرب إلى عدوة الأندلسيين، فمات من ليلته" ، وبعد وفاته انتقل الحكم من بني محمد إدريس إلى بني عمر بن إدريس، بعد أن قدم علي بن عمر صاحب بلاد صنهاجة وغمارة، وقضى على ثورة عبد الرحمن بن سهل الجذامي، ودخل مدينة فاس .
والأمير علي هذا هو ابن الأمير عمر الذي استدعاه أخوه محمد لاستنزال أخويه عيسى والقاسم، وبعد استنزالهما أصبح حوز بلاده يمتد على طول الساحلين الأطلنتي والمتوسطي، في حين اكتفى أبناء محمد بفاس ما والاها، وبعد وفاة يحيى بن محمد وثورة عبد الرحمن بن سهل الجذامي، أقبل علي بن عمر من بلاد صنهاجة، ودخل مدينة فاس، "واستقام له الأمر إلى أن خرج عليه عبد الرزاق الفهري الخارجي (...) فخرج إليه الأمير علي بن عمر بن إدريس رضي الله في عسكر عظيم، فكانت بينهم حروب عظيمة، وكان الظفر فيها لعبد الرزاق الخارجي، فهزم علي بن عمر، وقتل خلق كثير من جنده، وفر علي بنفسه إلى بلاد أوربة، ودخل عبد الرزاق إلى مدينة فاس" .
بعد فرار الأمير على بن عمر بن إدريس إلى أوربة منهزما أمام جيش عبد الرزاق الخارجي، استدعى أهل فاس يحيى بن القاسم بن إدريس (ت292هـ) المعروف بالمقدم، "فولوه على أنفسهم، فلم يزل بها حتى قتله ربيع بن سليمان في سنة اثنين وتسعين ومائتين" .
بعد وفاة يحيى بن القاسم، ولي يحيى بن إدريس بن عمر فاساً (292-307هـ)، وفي هذا الصدد يقول أبو عبيد الله البكري: "فتقدم يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس إلى مدينة فاس، فدخلها، ورجع الأمر إلى بني عمر، فلم يزل بيد يحيى حتى قدم مصالة بن حبوس سنة سبع وثلاثمائة (...) فخرج إليه يحيى مدافعا له، فانهزم يحيى، وانفض جمعه، ولم تقم له قائمة بعد" ، لكن ابن أبي زرع يقدم لنا رواية مفادها أن مصالة تقبض على يحيى بعد أن أوغر موسى بن أبي العافية صدره عليه، بقوله: "سعى موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس عنده [مصالة] حتى أوغر صدره عليه، فعزم مصالة على القبض عليه، فلما قرب من مدينة فاس، خرج إليه الأمير يحيى بن إدريس يسلم عليه في قوم من وجوه عسكره، فقبض عليهم مصالة، وقيد يحيى بالحديد، ودخل مصالة مدينة فاس ويحيى بن إدريس بين يديه مقيد على جمل، فعذبه بأنواع من العذاب، حتى أخرج إليه ماله وذخائره، فلما قبض مصالة الأموال، أطلقه ونفاه إلى مدينة أصيلة" .
يصف أبو عبيد الله البكري حال يحيى بن إدريس بن عمر ومآله، بقوله: "لما أجلى مصالة بن حبوس يحيى بن إدريس، التاثت به الحالة، وانفض جمعه ومن كان معه، ثم أخذه بعد ذلك موسى بن أبي العافية، فخرب مدينته وسجنه دهرا طويلا بمدينة لكاى، ثم أطلقه، ثم نزع بنفسه إلى أصيلة وسكنها، وأقطعه بنو إبراهيم شيئا يقوم به معاشه (...) فلما كان في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة توجه نحو المهدية، فوافق قيام أبي يزيد وفعل الشيعة بأنفسهم، فلم يصل إليهم، ومات جوعا في حصار أبي يزيد بإفريقيا" .
ولما قبض مصالة على يحيى بن إدريس ونفاه، قدم على مدينة فاس ريحان المكناسي، ورجع إلى افريقية، فأقام ريحان المكناسي عاملا على مدينة فاس وأحوازها ثلاثة أعوام، إلى أن قام عليه بها الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الحسني فأخرجه عنها .
لما انصرف مصالة بن حبوس إلى أفريقية سنة 310هـ، "قام حسن بن علي الحسني [الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس (310-313)] مع البربر، ونفى ريحان عنها، وملكها عامين، وزحف للقاء موسى بن أبي العافية، وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منها بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل، وخلص الحسن إلى فاس منهزما، وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله، وبعث إلى موسى، فوصل إلى فاس، وملكها، وطالبه بإحضار الحسن، فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكرا، فتدلى من السور، فسقط، ومات من ليلته (...)، وذهب ملك الأدارسة، واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب، وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس، وأخاه الحسن إلى الريف، فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن، وولوه عليهم، واختط لهم الحصن المعروف بهم هنالك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة" .
3-الجلاء إلى البصرة وحجر النسر (313-363)
ظهر فاعلون تاريخيون جدد على مسرح الأحداث السياسية، أضعفوا قوة الأدارسة؛ ففي سنة 305هـ وصل ميسور قائد أبي عبيد الله الشيعي إلى المغرب، وناجز الأدارسة سنة 307هـ، وفوض أمر المغرب لابن عمه موسى بن أبي العافية المكناسي، الذي ضيق على الأدارسة، وأوغر عليهم صدر ميسور عامل الشيعة على تاهرت وقائد حملتهم على المغرب، فتقبض على يحيى بن إدريس بن عمر، ونكبه سنة 307هـ، وأنهى ثورة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس سنة 313هـ، وأجلى الأدارسة من فاس إلى حصن حجر النسر.
وبذلك، انتقل الأدارسة من طور القوة والحظوة، إلى طور الضعف والذل، محصورين في حصن حجر النسر من طرف موسى بن أبي العافية المكناسي، وتجدر الإشارة إلى أن موسى بن أبي العافية بايع الشيعة، ثم خلع بيعتهم وبايع الأندلسيين، مما جعل المغرب مسرحا لصراع فاطمي أندلسي.
ذكر ابن أبي زرع الفاسي أن موسى بن أبي العافية "ملك مدينتي فاس في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، وملك تازة وتسول وألكاي ومدينة طنجة والبصرة وكثيرا من أعمال المغرب (...) واستولى ابن أبي العافية على جميع بلاد المغرب، وبايعته القبائل والأشياخ، فأجلى جميع الأدارسة عن بلادهم، وأخرجهم من ديارهم، وملك مدينة أصيلة ومدينة شالة وغيرهما من بلادهم، وساروا بأجمعهم إلى قلعة حجر النسر مقهورين مغلوبين، فانحصروا بها" ، وبعد سيطرة موسى بن أبي العافية على فاس، استخلف ابنه مدين عليها ، واتجه لحصار الأدارسة في حجر النسر، وصمم على استئصالهم سنة 317هـ، "فأخذ عليه في ذلك أكابر أهل المغرب، وقالوا له: قد أجليتهم، وأفقرتهم، أتريد أن تقتل بني إدريس أجمعين، وأنت رجل من البربر؟ فانكسر عن ذلك، ولاذ عنهم بعسكره، وتخلف لمراقبتهم قائده أبو قمح، فكانت محلته قريبا منهم، فضيق عليهم" .
استغل موسى بن أبي العافية الدعم الشيعي، فقضى على الأدارسة بفاس، وسيطر على باقي مجالاتهم، ثم تغلب على نكور وتلمسان، ففي سنة 317هـ "سار موسى بن أبي العافية إلى مدينة نكور، وصاحبها يومئذ المؤيد بن عبد البديع بن إدريس بن صالح بن منصور، فحاصره فيها حتى تغلب عليها، واستباحها، وغنم ما فيها، وقتل المؤيد، وهدم أسوارها" ، وفي سنة 319هـ، "نهض إلى تلمسان (...) بعد أن استخلف على المغرب الأقصى ابنه مدين، وأنزله بعدوة القرويين، واستعمل على عدوة الأندلس طِوال بن أبي يزيد، وعزل به محمد بن ثعلبة، وزحف إلى تلمسان، فملكها" .
بعد تغلب بن أبي العافية على تلمسان سنة 319هـ، وضمها لممتلكاته في المغرب الأقصى، "كاتب (...) عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس، ورغب في موالاته، والدخول في طاعته، وأن يستميل لطاعته أهواء أهل العدوة المجاورين له، فتقبله أحسن قبول" ، وجاءت مساعدة الناصر لموسى بن أبي العافية للقضاء النهائي على الأدارسة، حيث "أمده بالخلع والأموال، وقوى يده على ما كان يحاوله من حرب ابن أبي العيش وغيره، فظهر أمر موسى من ذلك الوقت، وتغلب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي" ، وفي هذا الصدد قال ابن أبي زرع الفاسي: "فلما ملك ابن أبي العافية مدينة تلمسان ونكور وفاس، بايع عبد الرحمان الناصر لدين الله ملك الأندلس، وقام بدعوته، وخطب له على جميع منابر عمله" .
ولما نما إلى عبيد الله الشيعي خبر دخول موسى بن أبي العافية في طاعة عبد الرحمان الناصر، بعث إليه قائده حميد بن يصليتن الكتامي سنة 321هـ، "في عشرة آلاف فارس، فالتقى بموسى بن أبي العافية بفحص مسون، فكانت بينهم حروب عظيمة وسجال، ثم إن حميد بن يصليتن بيته ليلة، فضرب في عسكر موسى بن أبي العافية، فانهزم موسى بن أبي العافية وأصحابه، وفر إلى عين إسحاق من بلاد تسول فتحصن بها، وارتحل حميد بن يصليتن إلى مدينة فاس، فلما قرب منها، هرب مدين بن موسى، فدخلها، وولى عليها حامد بن حمدان الهمداني، وانصرف إلى أفريقية" .
استغل الأدارسة هزيمة موسى بن أبي العافية، فثاروا على قائده المكلف بالإشراف على مراقبتهم في حجر النسر، فـ"تظاهر بنو إدريس الذين بحجر النسر على أبي الفتح قائد ابن أبي العافية، فهزموه، ونهبوا عسكره، وذلك حين بلغتهم هزيمة ابن أبي العافية، وهروب مدين ابنه عن مدينة فاس" .
ما لبث أن "انتفض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله، وثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجذامي على حامد بن حمدان فقتله، وبعث برأسه إلى ابن أبي العافية، فأرسله إلى الناصر بقرطبة، واستولى على المغرب" ، فعاد موسى بن أبي العافية إلى قواعده، وطرد منها عمال الشيعة.
وفي سنة 323هـ، قدم إلى المغرب ميسور قائد أبي القاسم الشيعي، لرد المغرب إلى الدعوة الشيعية "فحاصر ميسور مدينة فاس أياما إلى أن خرج إليه أحمد بن أبي بكر مبايعا، وأخرج له هدية عظيمة ومالا، فقبض منه المال والهدية، وثقفه في القيود، وبعث به إلى المهدية، فسد أهل مدينة فاس مدينتهم في وجه ميسور الفتى، ولم يمكنوه من دخولها، وقدموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي، فحاصرهم ميسور مدة من سبعة أشهر، فلم يقدر عليهم بشيء، فصالحهم ميسور على أن أعطوه ستة آلاف ديناراً واقطاعاً ولبوداً وقرباً للماء وأثاثاً، وكتبوا بيعتهم لأبي القاسم الشيعي، وكتبوا اسمه في سكتهم، وخطبوا له على منابرهم، فقبل ميسور ذلك منهم، وارتحل عنهم نحو موسى بن أبي العافية حتى لحق به" .
استغل الأدارسة حملة ميسور الشيعي على موسى بن أبي العافية، فانضموا إلى صف ميسور، وتولوا حرب موسى، "فكانت بينهما حروب عظيمة، ولي معظم تلك الحروب بنو إدريس" الذين قدموا على أنفسهم الأمير القاسم بن محمد القاسم "قدمه بنو إدريس على جميعهم بعد فرار موسى بن أبي العافية عنهم، فملك أكثر بلاد المغرب إلا مدينة فاس فإنه لم يملكها، وكان سكناه بقلعة حجر النسر، فأقام على إمارته إلى أن توفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فولي بعده ولده أبو العيش أحمد بن كنون" ، فـ"قاتلوه [موسى بن أبي العافية] حتى هرب إلى الصحراء أمامهم، وتملك الأدارسة أكثر ما كان بيد موسى بن أبي العافية قائمين بدعوة أبي القاسم الشيعي، فلم يزل ابن أبي العافية شريدا في الصحراء وأطراف البلاد التي بقيت بيده، وذلك من مدينة كرسيف إلى مدينة نكور" ، وبعد رحيل ميسور "رجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب فملكها (...) وخاطب الناصر، فبعث إليه مددا من أسطوله" ، وهكذا استولى موسى بن أبي العافية على فاس والمغرب الشرقي، في حين ظلت سبتة وطنجة والبصرة وأصيلة في حوز الأدارسة.
بلغ أمويو الأندلس أوج قوتهم زمن حكم عبد الرحمان الناصر (ت350)، فدخلوا في صراع مفتوح مع الفاطميين، وكانت أرض المغرب مسرحا لصراع الفريقين؛ وأمام تنامي قوة الأندلس، وبُعد الفاطميين عن ديار المغرب، ودخول حملاتهم مرحلة من الضعف والفشل، بايع الأدارسة عبد الرحمان الناصر، وتخلوا له عن سبتة وطنجة، وفي هذا السياق قال ابن أبي زرع الفاسي متحدثا عن بيعة الأمير أبي العيش أحمد بن القاسم كنون الحسني لعبد الرحمان الناصر: "وبايع عبد الرحمان الناصر لدين الله صاحب الأندلس، وخطب له على جميع منابر عمله، فلم يقبل ذلك منه الناصر، وقال له، لا أقبل لك بيعة إلا أن تمكنني من طنجة وسبتة، فامتنع أبو العيش من ذلك، فبعث إليه الناصر بالقطائع والجيوش لقتاله، وضيق عليه، فصالحه على ما طلب منه، فأعطاه سبتة وطنجة، وبقي أبو العيش واخوته وبنو عمه من الأدارسة بمدينة البصرة وأصيلة تحت بيعة الناصر وفي كنفه متمسكين بدعوته" .
بعد بيعة الأدارسة لعبد الرحمان الناصر، "جاز قواد الناصر وجيوشه من الأندلس إلى العدوة، يقاتلون من خالفهم من البربر، ويستألفونهم، ويحملون الطائع على المخالف، والناصر ممد لمن عجز منهم برجاله، مقوي لمن ضعف بماله، حتى ملك أكثر بلاد المغرب، وبايعه أكثر القبائل من زناتة وغيرهم من البربر، وخطب له على منابره من مدينة تاهرت إلى مدينة طنجة، ما عدا سجلماسة فإنه قام بها في ذلك الوقت منادر البربري" .
وبذلك دخل الأدارسة تحت وصاية أمويي الأندلس، وهذا ما تفصح عنه رواية ابن حوقل المعاصر لهذا العهد، بقوله: "وفي وقتنا هذا، فقد تدانت أحوالهم، وصلحت أمورهم، وعمر طريقهم، ولم يزل أهل هذا النسب منظورا إليهم، مرعية حقوقهم عند بني أمية على سالف الدهر، وأدركت عبد الرحمن أبا المطرف بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمان بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان يحافظ عليهم مرة، ويسوقهم بالعصا مرة، لما تظاهر به أبو العيش من قبح السيرة وخبث المعاملة لبني السبيل وكثرة الغيلة، وذلك أن عبد الرحمن هذا وأهله يملكون الأندلس، ويحاذون هذه الناحية، وبينهم أصل الخليج الخارج إلى بلد الروم عن قرب مسافة ما بين العدوتين، حتى أنهم ليرى بعضهم ماشية بعض وصور أشجارهم وزروعهم، ويتبينون الأرض المفلوحة من أرض البور وعرض الماء في ذلك يكون اثني عشر ميلا" .
و"لما رأى أبو العيش غلبة الناصر على بلاد العدوة، كتب إليه إلى قرطبة يستأذنه في الجهاد، فأذن له (...) ولما خرج أبو العيش إلى الأندلس برسم الجهاد، استخلف على عمله أخاه الحسن بن كنون، فمات أبو العيش في جهاد الروم سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة" .
ولما نما إلى معد بن إسماعيل الشيعي خبر غلبة الناصر الأموي على بلاد المغرب، عظم عليه الأمر، "فبعث قائده جوهرا الرومي في جيش عظيم يزيد على عشرين ألف فارس من قبائل كتامة وصنهاجة وغيرهم، وأمره أن يطأ عليهم، فخرج جوهر من القيروان يريد بلاد المغرب، وذلك سنة سبع وأربعين وثلاثمئة" ، فـ"دخل جوهر قائد أبي تميم إلى الغرب، واستولى على مدينة فاس، ثم توجه إلى تيطاون، ووصل إلى مضيق سبتة، فلم يقدر عليها، ورجع عنها، وقصد بعساكره إلى سجلماسة" ، "فأنفذ الأمر بالمغرب ثلاثين شهرا، ثم انصرف إلى مولاه معد بن اسماعيل العبيدي بعد أن دوخ بلاد المغرب، وأثخن فيها، وقتل حماتها، وقطع الدعوة بها للمروانيين، وردها للعبيديين" .
وأثناء هذه الحملة "كان الأمير الحسن بن كنون، قد بايع العبيديين فيمن بايعهم عند غلبة جوهر على المغرب، فلما انصرف جوهر إلى أفريقية في آخر تسع وأربعين وثلاثمائة، نكث الحسن بن كنون بيعة العبيديين، وعاد إلى المروانيين، وتمسك بدعوة الناصر، ودعوة ولده المستنصر من بعده، خوفا منهم لا محبة فيهم لقرب بلاده منهم، فلم يزل في طاعتهم قائما بدعوتهم إلى أن قدم بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي من أفريقية قاصدا إلى المغرب (...) فقتل زناتة، واستأصلهم، وملك المغرب بأسره، وقطع أيضا منه دعوة المروانيين، وقتل أولياءهم، وأخذ البيعة على جميع بلاد المغرب لمعد بن اسماعيل كما فعل جوهر قبله، فكان أول من سارع إلى بيعته، ونصره، وقتل أولياء المروانيين، وقطع دعوتهم من بلاد المغرب الحسن بن كنون صاحب البصرة، وكشف وجهه في ذلك، وعمل فيه جهده" .
يبدو من خلال هذه الوقائع التاريخية أن الأدارسة، أصبحوا يهادنون كل متغلب على بلاد المغرب، وهكذا دخلوا في طاعة الأندلسيين، ثم هادنوا العبيديين، وأطاعوهم بعد أن انتهت حملاتهم إلى الغرب، وهذا ما جعل الحكم المستنصر يبعث بجيوشه لغزو الأدارسة واستنزالهم ونفيهم إلى الأندلس، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ الأدارسة عنوانها: الأدارسة في المنفى (363-375).
4-الأدارسة في المنفى (633-375)
أقصي الأدارسة من الحكم من طرف الحكم المستنصر الأندلسي (350-366هـ)، ونفوا أجمعين إلى الأندلس ثم إلى الإسكندرية، وفي سنة 375هـ قتل آخر سلطان إدريسي، وقطع رأسه، وحُمِل إلى المنصور بن أبي عامر حاجب هشام المؤيد.
1-4: المنفى في الأندلس
هادن الحسن بن كنون العبيديين، لضمان بقائه في الحكم، وهكذا نجده قد بايعهم بعد حملتي جوهر الصقلي سنة 347هـ، وبلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي سنة 362هـ، الأمر الذي أغضب الأندلسيين، فصمموا على حربه، واستنزاله، فبعث إليه الحكم المستنصر (350-366) قائده محمد القاسم سنة 362هـ، ثم سلط عليه قائد جيوشه غالبا.
وفي هذا الصدد قال ابن أبي زرع الفاسي: "بعث الحكم قائده محمد بن القاسم في جيش كثيف إلى قتال الحسن بن قنون، فجاز إليه من الجزيرة الخضراء إلى مدينة سبتة في خلق عظيم وعدد كثير وقوة وعدة كاملة، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فزحف إلى قتاله الحسن بن كنون في قبائل البربر، فالتقى الجمعان في أحواز طنجة بموضع يعرف بفحص بني مصرخ، فكان بينهما حرب عظيم، قتل فيها محمد بن القاسم قائد الحكم المستنصر، وقتل معه خلق كثير من أصحابه، وفر الباقون، فدخلوا سبتة، فتحصنوا بها، وكتبوا إلى الحكم يستغيثون به" .
بعد فشل حملة محمد بن القاسم التي واجهها الأدارسة بشراسة، بعث الحكم المستنصر قائد جيوشه غالبا، قال ابن أبي زرع: "فبعث إليهم قائد عسكره وصاحب حروبه غالبا مولاه (...) فأعطاه الحكم أموالا جليلة وعدة كثيرة وجيوشا وافرة، وأمره بقتال العلويين، واستنزالهم من معاقلهم، وقال له عند وداعه: يا غالب سر مسير من لا إذن له في الرجوع، إلا حيا منصورا أو ميتا معذورا، ولا تشح بالمال، وابسط يدك به يتبعك الناس، فخرج غالبا بالعساكر والجيوش والعدد والأموال عن قرطبة في آخر شوال من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، فاتصل خبر قدومه بالحسن بن كنون، فخاف منه، وأخلى مدينة البصرة، وحمل منها حريمه وجميع أمواله وذخائره إلى حصن حجر النسر القريب من سبتة، واتخذه معقلا يتحصن فيه لمنعته، فجاز غالب البحر من الخضراء إلى قصر مصمودة، فتلقاه الحسن بن كنون هنالك بجيوشه، فقاتله أياما، وأخرج غالب الأموال، فبعثها إلى رؤساء البربر الذين مع الحسن بن كنون ووعدهم وأمنهم، ففروا عن الحسن وأسلموه حتى لم يبق معه إلا خاصته ورجاله، فلما رأى ذلك، سار إلى حصن حجر النسر، فتحصن به، واتبعه غالب فحاصره به، ونزل بجميع جيوشه عليه، وقطع عنه الموارد، وأمده الحكم بالعرب الذين ببلاد الأندلس كافة ورجال الثغور، فوصل المدد إلى غالب في غرة المحرم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، فاشتد الحصار على الحسن بن كنون، فطلب من غالب الأمان على نفسه وأهله وماله ورجاله، وينزل إليه، فيصير معه إلى قرطبة فيكون بها، فنزل الحسن بأهله وماله، وأسلم الحصن إلى غالب، فملكه، واستنزل جميع العلويين الذين بأرض العدوة من معاقلهم، وأخرجهم عن أوطانهم، ولم يترك بالعدوة رئيسا منهم (...) وانصرف غالب إلى الأندلس، فحمل معه الحسن بن كنون وجميع ملوك الأدارسة، وقد وطأ جميع بلاد المغرب، وفرق العمال في جميع النواحي، وقطع دعوة بني عبيد من جميع آفاقه، ورد الدعوة إلى الأموية الحكمية" .
2-4: المنفى في الشرق
استقر الحسن بن كنون ومن معه من العلويين في منفاهم بالأندلس مدة سنة (364-365هـ)، ثم نفاهم الحكم المستنصر إلى بلاد الشرق، بعد أن جردهم من أموالهم، قال ابن أبي زرع: "ولما نكب الحسن بن كنون، وأخذ أمواله، أمر به وبالعلوية، فأخرجهم إلى الشرق، فجوزوا من ألمرية إلى تونس ليستريح من نفقاتهم، وذلك في سنة خمس وستين وثلاثمائة، فسار الحسن وبنو عمه إلى مصر، فنزلوا بها على نزار بن معد، فأقبل عليهم نزار، وبالغ في إكرامهم، ووعد الحسن النصرة والأخذ بثأره، فأقام عنده مدة طويلة" .
وفي سنة 373هـ، كتب الخليفة الفاطمي نزار بن معد بعهده إلى الحسن بن كنون على المغرب، "وأمر عامله على أفريقية بلكين بن زيري بن مناد أن يقويه بالجيوش، فسار الحسن إلى بلكين، فأعطاه جيشا من ثلاثة آلاف فارس، فاقتحم بهم بلاد المغرب، فسارعت إليه قبائل البربر بالطاعة، فشرع في إظهار دعوته" .
ولما نما خبر قدوم الحسن بن كنون بجيوش أفريقية، واستيلائه على بلاد المغرب، ورد الدعوة إلى الفاطميين، "بعث إليه ابن أبي عامر الوزير أبا الحكم عمر بن عبد الله بن أبي عامر في جيش كثيف، وقلده أمر المغرب وسائر أعماله، وأمره بحرب الحسن بن كنون، فنفذ لوجهه، وجاز البحر إلى سبتة، وخرج إلى حرب الحسن، فأحاط به، وحاصره أياما، ثم جوز المنصور بن أبي عامر ولده عبد الملك المظفر في أثر الوزير أبي الحكم بجيوش حيلة، فطلب الأمان على نفسه على أن يصير إلى الأندلس كمثل حاله الأول، فأعطاه الوزير أبو الحكم ما وثق به، وكتب إلى ابن أبي عامر المنصور يخبره، فأمره بتعجيله إلى قرطبة موكلا به من يحفظه، فبعثه، ووصل الخبر إلى المنصور بقدومه وجوازه، فلم يمض أمان ابن عمه، وأنفذ إليه بقتله في طريقه، فقتل، وقطع رأسه، ودفن جسده وحمل الرأس إلى المنصور .
وبوفاة الحسن بن كنون، انقرضت الدولة الإدريسية من المغرب، وهنا يلخص لنا ابن أبي زرع الفاسي تاريخ الأدارسة بقوله: "فانقرضت أيام الأدارسة بالمغرب بموت الحسن بن كنون آخر ملوكهم، وكانت مدة ملكهم به من يوم بويع مولانا إدريس بن عبد الله بن حسن بمدينة وليلي، وذلك يوم الجمعة الرابع من شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعين ومئة إلى أن قتل الحسن بن كنون في شهر جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة، وذلك مئتا سنة اثنتان وثلاث سنين سوى شهرين، وكان عملهم بالمغرب من السوس الأقصى إلى مدينة وهران، وقاعدة ملكهم مدينة فاس ثم البصرة، وكانوا يكابدون مملكتين عظيمتين وغالبين كبيرين: دولة العبيديين بمصر وأفريقية، ودولة بين أمية بالأندلس، وكانوا ينازعون الخلفاء إلى درك الخلافة، ويقعدهم ضعف سلطانهم، وقلة مالهم، وكان سلطانهم إذا اشتد وقوي إلى مدينة تلمسان، وإذا اضطرب الحال بهم، وضعفوا لا يجاوز سلطانهم البصرة وأصيلة وحجر النسر، إلى أن اعتراهم الإدبار والفرقة، وانقضت أيامهم، وانقطعت مدتهم" .
وبنفيهم من بلاد المغرب إلى قرطبة ثم إلى الإسكندرية، انقرض النسب الإدريسي من بلاد المغرب، وذلك بشهادة ابن خلدون بقوله: "كان الأدارسة لما أجلاهم الحكم عن العدوة إلى المشرق، ومحا آثارهم من سائر بلاد المغرب، واستقامت غمارة على طاعة المروانية، وأذعنوا لجند الأندلسيين، ورجع الحسن بن كنون لطلب أمرهم، فهلك على يد المنصور بن أبي عامر، فانقرض أمرهم، وافترقت الأدارسة في القبائل ولاذوا بالاختفاء إلى أن خلعوا شارة ذلك النسب، واستحالت صبغتهم إلى البداوة" .
وهكذا عاشت إمارة الأدارسة تاريخاً مضطرباً، توزع بين وليلي وفاس والبصرة وحجر النسر، ثم انهارت بسبب ضربات الأندلسيين، الذين قاموا بالقضاء عليها، ونفي آل البيت الإدريسي أجمعين إلى قرطبة ثم إلى الإسكندرية.