تاريخ برغواطة بمركزية مورية

عنوان المقال: تاريخ برغواطة بمركزية مورية
عبد الخالق كلاب

إن ما نعرفه اليوم عن تاريخ برغواطة هو قراءة خارجية أنتجها الخصوم، ما نعرفه هو ما تقدمه الروايات الإخبارية، هل تساءلتم يوما عن سياق تأليف تلك الأخبار المتداولة بخصوص برغواطة ومعتقدها؟ هل طرحتم أسئلة بسيطة من صلب عمل المؤرخ المبتدئ حول من ألف تلك الروايات؟ ما انتماؤه السياسي والمذهبي؟ كم الفارق الزمني بين تاريخ رواية الخبر وتاريخ تأليفه؟ هل تعرضت الرواية للزيادة والنقصان مع توالي العصور والأزمان؟
 شاءت الاقدار أن يروي أخبار برغواطة إخباريان ينتميان مذهبياً وسياسيا إلى العبيديين والأندلسيين، الأول هو ابن حوقل الذي عرف بنزعته الشيعية، والثاني هو أبو عبيد الله البكري الذي عاش أسلافه في كنف الدولة الأندلسية، فنحن إذاً لا نتوفر على رواية من داخل برغواطة، لذلك فالمنطق يفرض علينا قراءة الأخبار المتداولة وفق السياق الذي أنتجت فيه، وتفادي إصدار أحكام جاهزة على إمارة مورية عمرت طويلاً، وشملت مجالا جغرافياً مهماً عرف بتامسنا.
يربط الإخباريون تاريخ تأسيس برغواطة بنجاح ثورة المور على الأمويين، قال البكري: "فلما قتل ميسرة، وافترق أصحابه احتل طريف ببلد تامسنى (...) فقدمه البربر على أنفسهم، وولى أمرهم" ، والذي لا ينتبه إليه الباحثون هو أن طريفاً كان زعيم قبيلة شارك إلى جانب ميسرة بأهله وقبيلته، قال البكري: "وكان [طريف] إذ ذاك ملكا لزناتة وزواغة" ، وبعد نجاح الثورة والقضاء على الخطر الزاحف من المشرق، عاد إلى موطنه تامسنا لقياده قبيلته، ألا يسمح لنا هذا بإعادة النظر في تاريخ برغواطة، وتدقيق تاريخ نشأتها لأنه من المحقق أن وجود إمارة برغواطة كان سابقاً لعام 123 هجرية، فهذا التاريخ يؤرخ لنجاح الثورة ضد الجيش الأموي، ولا يؤرخ لبداية الدولة البرغواطية، التي هي نتيجة اجتماع قبائل تامسنا قبل الثورة.
ألم تكن مشاركة برغواطة في معركة الأشراف ضد الأمويين كافية لنقمة الأمويين ومن يدعي الانتساب إليهم عليها؟ ألم يعبر أبو عبيد الله البكري عن حقده وعدائه لزعيم ثورة المغاربة واصفاً إياه بميسرة الحقير؟ ألم يكن عداء الأندلسيين لبرغواطة بسبب مشاركتها في الثورة على الأمويين؟
 قبل الشروع في تناول تاريخ برغواطة، ينبغي التأكيد على أن برغواطة مثلت إجماع المغاربة، ومقاومتهم للغزاة، فبرغواطة تمثلنا، وهي جزء من تاريخنا، والحديث عن تاريخها هو حديث عن تاريخ أمتنا ومقاومتها للاحتلال الأجنبي، إن فهم هذه الحقيقة يسمح بإدراك سياق عداء القوى الطامحة في السيطرة على المغرب، وهنا أقصد العبيديين والأندلسيين.
إن كل ما كتب حول برغواطة هو سرد لا يرقى إلى المفهمة، فبلوغ المفهمة ينطلق من وضع تحقيب لتاريخ برغواطة، يحدد الحقب والمنعطفات، ويبرز التحولات، ويستخلص المفهوم الجامع لكل حقبة، وفي سبيل ذلك، انتهيت إلى وضع تصور واضح، يساعد القارئ على ترتيب الأحداث والوقائع، وفهم السياقات، وإدراك التحولات، واستيعاب ما حدث فعلاً، وهذا التصور هو حصيلة القيام بعمليات فكرية، أسفرت عن تحقيب تاريخ برغواطة في أربع حقب؛ الحقبة الأولى (123-224هـ) مفهومها الجامع: من المقاومة إلى الإصلاح والصلاح، والحقبة الثانية (224-297هـ) مفهومها الجامع: من العنف إلى الخراب، والحقبة الثالثة (297-368هـ) مفهومها الجامع: من السلم والمهادنة إلى المواجهة، والحقبة الرابعة (368-450هـ) مفهومها الجامع: برغواطة في مواجهة زناتة وصنهاجة.
- من المقاومة إلى الإصلاح والصلاح (123-224هـ):
يزعم الباحثون أن بداية برغواطة كانت في عام 123هـ/741م، أي مباشرة بعد معركة الأشراف، والحقيقة أن التاريخ المذكور يوثق لمقاومة الوجود الأموي، ولا ينبغي اعتماده بداية لتاريخ الإمارة، إذ من المحتمل أن بدايتها ترجع إلى تاريخ سابق، ودليلنا في ذلك قول البكري أن طريفاً (123-127هـ) "كان إذ ذاك ملكاً لزناتة وزواغة" ، وقد انضم طريف إلى ميسرة المطغري في حربه على عمر المرادي عامل الأمويين على طنجة، إذ ذكر البكري: "أنه كان من أصحاب ميسرة المطغري" ، وبعد نهاية الحرب "افترق أصحابه [ميسرة، و] احتل طريف ببلد تامسنى (...) فقدمه البربر على أنفسهم، وولى أمرهم" .
وقد حاول الإخباريون النيل من طريف، فرغم إقرار البكري بإسلامه، بقوله: "وكان على ديانة الإسلام إلى أن هلك" ، فإننا نجد ابن خلدون رماه بانتحال النبوة، بقوله: "وبقي طريف قائماً بأمرهم بتامسنا، ويقال أيضاً إنه تنبأ، وشرع لهم الشرائع" ، كما سعوا إلى نسبه إلى أصول يهودية بالقول "أن طريفاً أبا ملوكهم من ولد شمعون بن يعقوب بن إسحاق" .
إن المفهوم الجامع لمدة حكم طريف هو المقاومة، مقاومة ظلم بني أمية، لذلك لا غرابة أن نجد الروايات ذات المركزية المشرقية تنعته بانتحال النبوة، في حين أن الرجل كان مورياً محباً لوطنه، مقدماً في قومه، وفوق كل ذلك ساهم في ملحمة طرد الأمويين من بلاد المور، لذلك ينبغي علينا تخليده رمزاً وطنياً نركن إلى ذكراه لاستلهام قيم الانتماء إلى الوطن والدفاع عنه.
بعد وفاة طريف "قدم البربر ابنه صالحاً منهم" ، وقد ذكر ابن حوقل (ت367هـ/977م) أن صالحاً "كان بربري الأصل مغربي المولد مطلعاً بلغة البربر، يفهم غير لسان من ألسنتهم" ، وأضاف أنه "دخل العراق، ودرس شيئاً من النجوم، وصلحت منزلته في أكثر أحكامه، وكان له حظ حسن، وفهم بأطراف من العلم، وعاد، فنزل بينهم" .
كان صالح مصلحاً، وظف تكوينه وخبرته لتبسيط الإسلام لقومه، فـ"ـعمل لهم كلاماً بلغتهم (...) فهم يتدارسونه، ويعظمونه، ويصلون به" ، فالشذرات التي وصلتنا من كتابه مترجمة من الأمازيغية إلى العربية، تؤكد أن الرجل بذل جهداً عظيماً من أجل نشر الإسلام بين قومه.

ذكر كلمات هي استفتاح كتابهم فمما ترجم منه
بسم الله الذي أرسل رسله إلى الناس وهو الذي بين لهم مع أخباره علم إبليس، أبى الله أن يعلم إبليس ما علم الله رسله من شيء، ويقلب الألسن في الأقولة، ليس يقلب الألسن في الأقولة إلا الله، بقضائه نطق اللسان الذي أرسل الله بالحق إلى الناس، وبه استقام الحق وأنار، محمد كان حين عاش استقام الناس للدين، فلما مات فسد الدين، كذب من يقول إن الحق استقام وليس ثم رسول.
الاستبصار في عجائب الأمصار، ص.200.

ذكر كلمات مترجمة من أول سورة أيوب وهي استفتاح كتابهم
بسم الله الذي أرسل الله به كتابه إلى الناس، هو الذي بين لهم به أخبارهم، قالوا: علم إبليس القضية، أبى الله ليس يطيق أبليس أن يعلم كما يعلم الله، سل أي شيء يغلب الألسن في الأقولة إلا الله بقضائه باللسان الذي أرسل بالحق إلى الناس استقام الحق، انظر محمداً، وعبارة ذلك بلسانهم أيمنى مامت فمامت محمد كان حين عاش استقام الناس كلهم الذين صحبوه حتى مات، ففسد الناس، كذب من يقول إن الحق يستقيم وليس ثم رسول الله. 
البكري، المسالك والممالك، ج2، ص.324.

من خلال الشذرات التي وصلتنا من كتاب صالح بن طريف، يبدو أن الرجل بذل جهدا عظيماً في ترجمة النصوص والمعاني، ويتأكد أنه كان مسلماً موحداً "بسم الله الذي أرسل رسله إلى الناس"، مؤمنا بالقضاء "سل أي شيء يغلب الألسن في الأقولة إلا الله بقضائه باللسان الذي أرسل بالحق إلى الناس استقام الحق" مؤمناً بالرسالة المحمدية "كذب من يقول إن الحق يستقيم وليس ثم رسول الله".
 ولكن رغم ذلك رُمي صالح بتهمة انتحال النبوة من طرف مؤرخي العبيديين والأندلسيين ومن نقل عنهم، إذ قال عنه ابن حوقل: "وهو [صالح] في جميع ذلك يذكر أنه يوحى إليه، وأن الملائكة تأتيه بما يأمرهم به وينهاهم عنه" ، وقال عنه البكري: "وكان من أهل العلم والخير، فتبنأ فيهم، وشرع لهم الديانة التي هم عليها إلى اليوم، وادعى أنه نزل عليه قرآنهم الذي يقرؤونه إلى اليوم" ، وقال عنه صاحب الاستبصار: "فأظهر الإسلام والنسك حتى استفز عقولهم، فولوه على أنفسهم، فلما ولي شرع الديانة التي أخذوها عنه" ، وقال عنه ابن خلدون: "وكان من أهل العلم والخير فيهم، ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوة النبوة، وشرع لهم الديانة التي كانوا عليها وهي معروفة في كتب المؤرخين، وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سوراً منه" .
روى أبو عبيد الله البكري تاريخ برغواطة بناء على ما أخبر به أبو صالح زمور سفير برغواطة إلى الحكم المستنصر سنة 352هـ، قال البكري: "أخبر أبو صالح زمور بن موسى بن هشام بن وارد يزن البرغواطي، وكان صاحب صِلاتهم حين قدم على الحكم المستنصر بالله رسولاً من قبل صاحب برغواطة أبي منصور بن عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي عفير يحمد بن معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف، وكان وصوله إلى قرطبة في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وكان المترجم عنه بجميع ما أخبر به الرسول الذي قدم معه، وهو أبو موسى عيسى بن داود بن عشر بن السطاسي من أهل شلة مسلم من بيت خيرون بن خير" .
 وتجدر الإشارة إلى أن البكري روى ما أخبر به زمور بعد مرور أكثر من قرن، فتاريخ رواية الخبر هو 352هـ، وتاريخ كتابته من طرف البكري هو 460هـ، إضافة إلى ذلك فالبكري، نقل عن زمور الأخبار الخاصة بـ"ممالك برغواطة وملوكهم"، وأنهى الحديث عنها بعبارة "انتهى كلام زمو"، أما شريعة صالح بن طريف فهي من نسج خيال البكري.
خرج صالح بن طريف البرغواطي إلى المشرق، ربما لأداء مناسك الحج، لكنه لم يرجع، وقد استغل الإخباريون غيابه، فرموه بتهمة أخرى هي إدعاء المهدوية، قال البكري: "وخرج صالح إلى المشرق، ووعد أنه ينصرف إليهم في دولة السابع من ملوكهم، وزعم أنه المهدي الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان لقتل الدجال، وأن عيسى بن مريم يكون من أصحابه ويصلي خلفه، وأنه يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً" .
إن المفهوم الجامع لمدة حكم صالح هو الإصلاح، كان الرجل مصلحاً، وظف معارفه وخبراته فوضع لأهل برغواطة كتاباً بالأمازيغية، يتأكد من خلال الشذرات التي وصلتنا منه أن الرجل كان مسلماً موحداً، مؤمنا بقضاء الله وبرسالة نبيه محمد (ص)، وأنه ختم حياته بالتوجه إلى المشرق ربما بغرض أداء مناسك الحج، لكن الروايات ذات المركزية المشرقية استهدفت الرجل، ورمته بادعاء النبوة والمهدوية، والحقيقة خلاف ذلك، لذلك ينبغي رد الاعتبار لهذا الرجل، وذلك بإعادة قراءة ما كتب في شأنه من روايات بمركزية مورية.
رحل صالح إلى المشرق، فانتهت أخباره، ونسجت بشأنه حكايات تدعي أنه سيعود في أيام سابع الأمراء من بيته، وتولى الحكم من بعده ابنه إلياس (174-224هـ)، كان إلياس رجلاً صالحاً عفيفاً، روى ذلك غير واحد من الإخباريين؛ فقد ذكر البكري أنه: "كان طاهراً عفيفاً لم يلبس بشيء من الدنيا إلى أن هلك بعد أن ملك خمسين سنة" ، وقال عنه ابن عذاري: "ثم ولي (...) إلياس بن صالح بن طريف، فأظهر ديانة الإسلام والعفاف، وبقي أميراً خمسين سنة إلى أن هلك" ، وقال عنه ابن خلدون: "وكان طاهراً عفيفاً زاهداً" .
عاصر إلياس أربعة أمراء أدراسة هم: إدريس الأول (172-175هـ)، وإدريس الثاني (187-213هـ)، ومحمد بن إدريس الثاني (213-221هـ)، وعلي بن محمد (221-234هـ)، وقد أوقف إلياس بن صالح مد الأدارسة بجيش عرمرم بلغ ثلاثة أضعاف جيش الأدارسة، قال أبو عبيد الله البكري: "قال داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، كنت مع إدريس بن إدريس في المغرب، فخرجت معه يوما إلى قتال الخوارج، فلقيناهم وهم ثلاثة أضعاف عددنا، فقاتلناهم قتالا شديدا" .
 وعاصر إلياس أيضاً أربعة من ملوك الأندلس هم: عبد الرحمان الداخل (138-172هـ)، وهشام الأول بن عبد الرحمان (172-180هـ)، والحكم الأول بن هشام المعروف بالربضي (180-206هـ)، وعبد الرحمان الثاني بن الحكم (206-238هـ)، وقد زعم أبو عبيد الله البكري أن صالحاً بن طريف أمر ابنه إلياس "بموالاة أمير الأندلس" ، وهذا وهم خالص، وكلام يتعارض مع السياق التاريخي آنذاك، لأن ملوك الأندلس الذين عاصروا إلياس، انشغلوا بالفتن الداخلية، ولم يكن لهم طموح وتشوف إلى بلاد العدوة، والمعلوم أن تحرشات الأندلسيين الأولى ببلاد المغرب تمت في عهد عبد الرحمان الناصر (300-350هـ) أي بعد أكثر من 76 سنة من وفاة إلياس، وبوفاة إلياس، انتهت حقبة المقاومة والإصلاح والصلاح، ودخلت برغواطة حقبة جديدة اتسمت بالعنف والخراب.
- من العنف إلى الخراب (224-297هـ):
في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن تنعم إمارة برغواطة بالاستقرار، بسبب ضعف إمارة الأدارسة المجاورة لها، عاشت عنفاً رافقته موجة قتل للأنفس وتخريب للمدن، وقد يتساءل المرء عن هذا التحول المفاجئ، ويلتمس الجواب من أقوال الإخباريين، فيقع في شراك الروايات ذات المركزية المشرقية، التي فسرت ما وقع بإظهار يونس بن إلياس (224-268هـ) ديانة جده صالح، قال أبو عبيد الله البكري: "فأظهر ديانتهم، ودعا إليها، وقتل من لم يدخل فيها، حتى أخلى ثلاثمائة مدينة وسبعاً وثمانين مدينة، حمل جميع أهلها على السيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع واحد يقال له تاملوّكاف، وهو حجر نايف عال وسط السوق سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين قتيلاً، وقتل من صنهاجة خاصة في وقعة واحدة ألف وغد والوغد عندهم المنفرد الوحيد الذي لا أخ له ولا ابن عم، وذلك في البربر قليل، وإنما أحصوا الأقل ليستدل به على الأعظم" ، وقال صاحب الاستبصار: "فأظهر ديانتهم، ودعا إليها، وقتل من خالفها إلى أن مات" ، وقال ابن خلدون: "فأظهر دينهم، ودعا إلى كفرهم، وقتل من لم يدخل في أمره حتى حرق مدائن تامسنا وما والاها، يقال إنه حرق ثلثمائة وثمانين مدينة، واستلحم أهلها بالسيف لمخالفتهم إياه، وقتل منهم بموضع يقال له تاملوكاف وهو حجر عال نابت وسط الطريق، فقتل سبعة آلاف وسبعمائة وسبعين" .
والحقيقة أن العنف الذي مارسه يونس، لا يمكن تفسيره بما زعمه البكري، وتوهمه من جاء بعده حقيقة، فالقول بأن يوسف طبق شريعة جده يعد في نظرنا وهما خالصاً، إذ ما الذي كان يمنع إلياس بن صالح من تطبيقها؟ ثم إن شريعة صالح كما وصلتنا من خلال شذرات مترجمة من كتابه تدعو إلى الإيمان بالله وبقضائه ورسالته، وهنا أطرح السؤال الآتي: ما التحول الذي حدث وجعل يونس يلجأ إلى العنف من أجل حكم برغواطة؟
نحن لا نتوفر على رواية برغواطية لما حدث، كل ما وصلنا هو رواية أندلسية كتبت بعد مرور 192 سنة عن وفاة يونس بن إلياس بن صالح، هذه الرواية ينبغي قراءتها قراءة تستخلص ما حُجب عنا من حقائق، وبقراءة الروايات المتداولة نجد أن يونس شرع في أعمال العنف مباشرة بعد أدائه لمناسك الحج وزيارته للأندلس، قال ابن عذاري المراكشي: "فولى يونس بن إلياس، وذلك بعدما وصل من المشرق، وحج ولم يحج أحد من أهل بيته، فأظهر ديانة جده، ودعا إليها، وقتل من لم يدخل فيها، حتى أخلى ثمان مئة موضع من مواضع البربر، قيل إنه قتل منهم سبعة آلاف ونحو السبع مئة" ، وقال البكري: "ثم انصرف يريد الأندلس، فنزل بين هؤلاء القوم من زناتة (...) [فـ] أظهر ديانته، ودعا إلى نبوته" .
والسؤال المطروح هنا: ما المعارف التي اكتسبها يونس بن إلياس في رحلته المشرقية والأندلسية، وما الوقائع التي عاينها وأثرت في سلوكه؟ لا يستبعد أن تكون الخلافات المذهبية التي كانت آنذاك في المشرق قد أثرت في إلياس، فتحول من ذلك الموري النبيل إلى آلة للعنف والدمار، خاصة ونحن نعلم من رواية البكري أنه كان كثير الحفظ متكلماً، قال البكري: "وكان يونس شرب دواء الحفظ، فلقن كل ما سمع حفظه، وطلب علم النجوم والكهانة والجان، ونظر في الكلام والجدال، وأخذ ذلك عن غيلان" .
يمكن تفسير التحول الذي حدث خلال حكم يونس بن إلياس بالعوامل السالفة الذكر، لكن في نفس الوقت تبقى إمكانية حدوث ثورات داخلية على حكم يونس قائمة، مما جعله يلجأ إلى العنف لإخمادها، لكننا لا نتوفر على روايات في هذا الاتجاه، سوى ما ذكره البكري بخصوص انتقال الحكم من أبناء إلياس بن صالح إلى أبناء اليسع بن صالح، بقوله: "وانتقل الأمر عن بنيه بقيام أبي غفير يحمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف عليهم فاستولى على الملك" ، مما يقوي فرضية إمكانية حدوث حروب داخلية حول الحكم بين حفدة إلياس بن صالح وحفدة اليسع بن صالح.
اقتفى أبو عفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح (268-297هـ) نهج سلفه يونس، إذ "كانت له وقائع كثيرة في البربر مشهورة لا تنسى مع الأيام، منها وقيعة تيمغست، وكانت مدينة عظيمة، وأقام القتل في أهلها ثمانية أيام من الخميس إلى الخميس، حتى شرقت دورهم ورحابهم وسككهم بدمائهم، ومنها وقعة بموضع يقال له بهت عجز الإحصاء عن عدد من قتل فيها" .
قال فضل بن مفضل: وقال سعيد بن هشام المصمودي في وقعة بهت قصيدة طويلة اخترنا منها أبياتاً منها :
يقولون النبي أبو غُفير     فأخزى الله أيام الكاذبينا
ألم تسمع ولم تر يوم بهت  على آثار خيلهم رنينا
رنين الباكيات فبين ثكلى       وعاوية ومسقطة جنينا
سيعلم قوم تامسنى إذا ما          أتوا يوم النشور مهَيمنينا
هناك يونس وبنو أبيه         يقودون البرابر مُهطيعنا
إذا وريا ورى زمت عليهم         جهنم قائد المستكبرينا
فليس اليوم ردتكم ولكن     ليالي كنتم متميسرينا

وبوفاة أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح، انتهت حقبة العنف والحروب الطاحنة والخراب، ودخلت برغواطة عهداً جديداً تميز بالسلم والمهادنة، حكم خلالها أبو الأنصار عبد الله بن أبي عفير، ثم أبو منصور عيسى بن أبي الأنصار.
- من السلم والمهادنة إلى المواجهة (297-368هـ):
تزامنت هذه الحقبة مع ظهور فاعلين جدد على مسرح الأحداث السياسية، فمن جهة الشرق تأسست الخلافة الفاطمية بأفريقية سنة 296هـ، ووجهت حملاتها غرباً، وتأسست الخلافة بقرطبة زمن حكم عبد الرحمان الناصر (300-350)، ولا شك أن هذه المستجدات فرضت على حكام برغواطة وضع الصراعات الداخلية جانباً، والاستعداد لكل خطر محتمل، لاسيما ونحن نعلم أن الشاكر لدين الله المدراري كان يستعد لحربهم، وقد حضر ابن حوقل هذه الاستعدادت بسجلماسة سنة 340هـ، وقال في شأنها: "وكنت ألفيت محمد بن الفتح المعروف بالشاكر لله بسجلماسة يدعو إلى غزوهم في سنة أربعين وثلاثمائة، وأظنه هلك ولم يبلغ منهم محابه لقلة إجابة من كان يدعوه إلى غزوهم من البربر، وخوفهم من اطراد حيلة لمحمد بن الفتح الشاكر لله عليهم في ذلك" .
وفي المقابل كان أبو الأنصار عبد الله بن أبي غفير (297-341هـ) أمير برغواطة، يهدد ثم يهادن، إذ "كان يجمع جنده وحشمه في كل عام، ويظهر أنه يغزو من حوله، فتهاديه القبائل، وتستألفه، فإذا استوعب هداياهم وألطافهم، فرق أصحابه، وسكنت حركته، فملك في دعة اثنين وأربعين سنة" .
وبعد وفاة أبي الأنصار، تولى الحكم ابنه أبو منصور عيسى (341-368هـ) في ظرف دقيق، عاين خلاله حملة جوهر الصقلي (447-449هـ) التي وصلت إلى الحدود الشمالية والشرقية لإمارته، إذ "دخل جوهر قائد أبي تميم إلى الغرب، واستولى على مدينة فاس، ثم توجه إلى تيطاون، ووصل إلى مضيق سبتة، فلم يقدر عليها، ورجع عنها، وقصد بعساكره إلى سجلماسة" ، ولا شك أن هذه الحملة، جعلت عيسى بن أبي غفير يتخذ إجراءات لتحصين إمارته من الحملات الشيعية.
ومن تلك الإجراءات؛ لم شمل القبائل وتكوين جيش لمواجهة التحرشات الخارجية، قال البكري: "إن بني صالح بن طريف يركبون وقت إخباره [زمور]، في ثلاث آلاف ومائتي فارس، وإن قبائل برغواطة الذين يدينون لهم وهم على ملتهم: جراوة وزواغة والبرانس وبنو واغمر ومطغرة وبنو بورغ وبنو ضمر ومطماطة وبنو وزكسبت، وعددهم ينتهي أكثر من عشرة آلاف فارس، وممن يدين لهم من المسلمين، وينضاف إلى مملكتهم زناتة الجبل وبنو أفلوسة وبنو كونة وبنو يسكر وأصادة وركانة وإيزمين ومنادة وماسنة ورصانة وترارتة، ومبلغ عددهم نحو اثنى عشر ألف فارس" ، أي أن الجيش البرغواطي أصبح عدده أكثر من 25.200 فارس.
ومن الإجراءات أيضا، إرسال سفارة إلى الأندلس عام 352هـ، بغرض ربط الصلات مع الحكم المستنصر (350-366)، لمواجهة الحملات الشيعية، خاصة ونحن نعلم أن الحملة التي قام بها جوهر الصقلي، قطع خلالها الدعوة المروانية على حد قول ابن أبي زرع الفاسي: "فأنفذ الأمر بالمغرب ثلاثين شهرا، ثم انصرف إلى مولاه معد بن اسماعيل العبيدي بعد أن دوخ بلاد المغرب، وأثخن فيها، وقتل حماتها، وقطع الدعوة بها للمروانيين، وردها للعبيديين" .
وقد كان على رأس هذه السفارة زمور البرغواطي، الذي حكى للأندلسيين تاريخ برغواطة، وفي ذلك قال البكري: "أخبر أبو صالح زمور بن موسى بن هشام بن وارد يزن البرغواطي، وكان صاحب صِلاتهم حين قدم على الحكم المستنصر بالله رسولاً من قبل صاحب برغواطة أبي منصور بن عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي عفير يحمد بن معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف، وكان وصوله إلى قرطبة في شوال سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وكان المترجم عنه بجميع ما أخبر به الرسول الذي قدم معه، وهو أبو موسى عيسى بن داود بن عشر السطاسي من هل شلة مسلم من بيت خيرون بن خير" .
وسياق هذه السفارة هو بحث أمير برغواطة عن حليف استراتيجي لمواجهة الحملات الشيعية، سيما وأن الإمارات التي نشأت في المغرب آنذاك وطـأتها جيوش جوهر الصقلي، فلم يبق لأبي منصور سوى الحكم المستنصر أمير الأندلس، وقد فسر البكري العلاقات البرغواطية الأندلسية تفسيراً خرافياً، إذ ذكر أن أمراء برغواطة كانوا يعهدون إلى من يأتي بعدهم من الأمراء بموالاة صاحب الأندلس، بقوله: "وولي بعده من بنيه ابنه أبو منصور عيسى بن أبي عفير، وهو ابن اثنين وعشرين سنة، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة (...) وكان أبوه قد وصاه قبل موته بموالاة صاحب الأندلس، وكذلك يوصي جميعهم المرشح للملك بعده" ، فالروايات الإخبارية أحياناً لا تنضبط للسياق التاريخي، ودليلنا في ذلك زعم ابن خلدون أن صالحاً "أوصى بدينه إلى ابنه إلياس، وعهد إليه بموالاة صاحب الأندلس من بني أمية" ، وهذا أمر لا يستقيم لأن صالحاً (127-174هـ) حكم في فترة كانت تعيش فيها الأندلس عدم استقرار سياسي، ولم تدخل بعد طور الصراع السياسي والمذهبي مع الفاطميين، كما أن الأندلس لم تشرع في عمليات غزو المغرب إلا مع عبد الرحمان الناصر (300-350هـ).
لم يفلح الحلف البرغواطي الأندلسي في الصمود أمام الحملات الشيعية، فبعد الحملة العسكرية الشهيرة التي قام بها جوهر الصقلي (447-449)، انتقل المعز الفاطمي للاستقرار بمصر سنة 362هـ، وولى على أفريقية بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي، وعهد إليه بغزو المغرب، وقطع علائقه مع الأندلس، قال ابن خلدون: "وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه، قطع علائق الأموية منه" .
وبعد رحيل الفاطميين إلى مصر، وتولي بلكين أمر أفريقية تحت نظرهم، وجه حملاته نحو المغرب سنة 368هـ، قال ابن خلدون: "ثم انفتح له باب في جهاد برغواطة، فارتحل إليهم، وشغل بجهادهم، وقتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار (...) وأرسل بالسبي إلى القيروان" ، وقال ابن عذاري: "فغزاهم أبو الفتوح، فكانت بينهم حروب لم يجر قبلها مثلها كان الظفر فيها لأبي الفتوح، وقتل الكافر ابن عيسى، وانهزمت عساكر برغواطة، فقتلوا قتلا ذريعاً، وسبي من نسائهم وذراريهم ما لا يحصى عددهم، وأرسل أبو الفتوح سبيهم إلى أفريقية، فلقيهم عامله عبد الله الكاتب مع أهل القيروان والمنصورية (...) وفي سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة، دخل سبي البرغواطيين إلى المنصورية يوم السبت لثمان خلون من ربيع الأول، فرأى أهل إفريقية من السبي ما لم يره أحد منهم لكثرته، وطيف بهم في المنصورية والقيروان" .
- برغواطة في مواجهة زناتة وصنهاجة (368-450هـ):
بعد نكبة 668هـ التي تعد منعطفاً حاسماً في تاريخ برغواطة، فخلالها غزا بنو زيري برغواطة، وقتلوا أميرها، وسبوا أهلها، ففشلت ريحها، وتوالت عليها الهجمات؛ إذ حابهم المنصور بن أبي عامر، وحاصرهم بنو يفرن، ثم أجهز عليهم المرابطون.
ذكر ابن خلدون أن المنصور بن أبي عامر بعث جيشاً لحرب برغواطة بقيادة مولاه واضح بقوله: "ولم أقف على من ملك أمرهم بعد أبي منصور، ثم حاربهم أيضاً جنود المنصور بن أبي عامر، لما عقد عبد الملك بن المنصور لمولاه واضح إمرة برغواطة هولاء فيمن قبله من الأجناد وأمراء النواحي وأهل الولاية، فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي" .
وبعد ذلك، انتهزت زناتة الفرصة، فحاصرت تامسنا، وضيقت على أهلها، يذكر البكري أن الهجمات الزناتية أدت إلى القضاء على برغواطة، بقوله: "ولم تزل برغواطة في بلادها معلنة بدينها وبنو صالح بن طريف ملوكها إلى أن قام فيهم الأمير تميم اليفرني، وذلك بعد عشرين وأربعمائة من الهجرة، فغلبهم على بلادهم، وسباهم، وجلا من بقي منهم، واستوطن ديارهم، وانقطع أمرهم، وعفا أثرهم" .
وقد وصف ابن حوقل حصار بني يفرن لبرغواطة بقوله: "وبسله رباط يرابط فيه المسلمون، وعليه المدينة الأزلية المعروفة بسله القديمة، وقد خربت، والناس يسكنون، ويرابطون برباطات تحف بها، وربما اجتمع في هذا المكان من المرابطين مائة ألف إنسان يزيدون في وقت وينقصون لوقت، ورباطهم على برغواطة من قبائل البربر على البحر المحيط متصلين بهذه الجهة، التي سقت عمارة بلد الإسلام إليها يغزون ويسبون" ، وذكر ابن أبي زرع الفاسي أن تميما اليفرني كان مولعاً بغزو برغواطة، بقوله: "كان تميم اليفرني رجلاً مصمماً في دينه الغالب عليه الجهل، وكان مولعاً بجهاد برغواطة، كان يغزوهم في كل سنة مرتين، فيقتل، ويسبي، فلم يزل على ذلك إلى أن مات في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة" .
ورغم ذلك استمرت إمارة برغواطة إلى بداية الحركة المرابطية، حسب شهادة ابن عذاري أثناء حديثه عن مرور عبد الله بن ياسين بتامسنا إيابه من الأندلس بقوله: "فمر بتامسنا، فوجد فيها أمماً لا تحصى أكثرهم تحت أمراء البرغواطة، وكان عسكر أمراء برغواطة أكثر من ثلاثة آلاف، وانضاف إليهم من سائر القبائل ما بين فارس وراجل أزيد من عشرين ألفاً من جراوة وزغاوة ومطغرة والبرانس وركونة وغيرها" .
وقد تم القضاء النهائي على برغواطة زمن حكم المرابطين سنة 499هـ، حسب صاحب الاستبصار، بقوله: "ولم يزالوا يتداولون هذه الديانة إلى غزو عبد الله بن ياسين الجزولي إياهم، فهلك منهم سبعة، وفنيت دولتهم سنة 499هـ" ، وفي سنة 450هـ حسب ابن خلدون بقوله: "ثم بدا لهم [المرابطون] جهاد برغواطة بتامسنا وما إليها من الريف الغربي، فزحف إليهم أبو بكر بن عمر أمير لمتونة في المرابطين من قومه، وكانت به فيهم وقائع، استشهد في بعضها صاحب الدعوة عبد الله بن ياسين (...) سنة خمسين وأربعمائة، واستمر أبو بكر وقومه من بعده على جهادهم حتى استأصلوا شأفتهم، ومحوا من الأرض آثارهم، وكان صاحب أمرهم لعهد انقراض دولتهم أبو حفص عبد الله من أعقاب أبي منصور عيسى بن أبي الأنصار بن أبي عفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف، فهلك في حروبهم، وعليه كان انقراض أمرهم، وقطع دابرهم على يد هؤلاء المرابطين" .
 
ختاماً، برغواطة إمارة مورية طبعت تاريخنا، فهي إمارة مجاهدة شاركت في المعارك التي أنهت الوجود الأموي ببلادنا، هي إمارة ساهمت في نشر الإسلام بمجال تامسنا بفضل رسالة صالح بن طريف الإصلاحية، هي إمارة خلقت إجماعاً دام 327 عاماً ضم قبائل مجال تامسنا، إجماع جعل الإمارة مجالاً استعصى على القوى الغازية اقتحامه، لذلك، فبرغواطة تمثل رمزاً للمقاومة والإصلاح والإجماع الوطني.

إرسال تعليق

أحدث أقدم