نظرية الموازنة والنمو عند بياجي

إذا كان علم النفس السلوكي يركز عادة على مفاهيم من قبيل المثير والاستجابة والدعم، لتفسير بعض التعلمات البسيطة، فإن نظرية بياجي اتجهت إلى تفسير تطور هذا "المثير". إن هذا الأخير، في نظر بياجي، لا يفي بالمطلوب بما أن بؤرة الاهتمام أصبحت تنصرف إلى المعرفة. ويقر بأن معرفة الإنسان تنجم عن تفاعل الذات مع محيطها، أي بيئته الاجتماعية والمادية. فالطفل يفعل في محيطه وينفعل، وهو أمر يضمن سيرورة تطوره.
وبالإضافة إلى عوامل التعلم الاجتماعية والمادية يتحدث بياجي عن عامل آخر يتحكم في التعلم، يسميه عملية الموازنة Equilibre، لأن هناك "أشياء يتعلمها الطفل وهو في طور نموه لا يمكن تفسيرها عن طريق المحددات المادية والاجتماعية والنضوجسة فحسب".
بموجب هذه القدرة الموروثة أصبح من الممكن تفسير كيفية انتظام المعلومات المتناثرة داخل نظام معرفي محكم. وتوسل الشخص بهذه القدرة يخول له إقامة استدلالات على الكيفية التي يجب أن تكون عليها االأشياء في هذا العالم.
إن النمو المعرفي للإنسان هو سيرورة تتحقق بموجب "توازن" بين التمثل Assimilation (من حيث كونه عملية إدماجية لمثيرات جديدة مع الخطاطات الموجودة مسبقا) والملاءمة Accomodation (ظهور خطاطات جديدة عند مواجهة صعوبة استخدام الخطاطات السابقة). يشكل التمثل أساس أي سلوك تكيفي. غير أن الإنسان عندما تعترضه صعوبات جديدة يكون مدعوا إلى تكييف بنياته الذهنية، كي يضمن من جديد حصول تمثل للمعطيات التي تواجهه: فالطفل الذي يتعلم إدراك الأشياء يصبح مدعوا إلى تعديل طريقة إدراكه، كلما واجه معطيات غير متوقعة (كالأشياء الثقيلة). وهو أمر ينعكس إيجابا على قدرته الفعلية.
تتمثل قيمة إعمال بياجي في كونها سعت إلى التدليل على أن التعلم الإنساني يتم بشكل تلقائي وذاتي، وأن الإنسان يبني معارفه بموجب أفعاله الخاصة. وهو منطلق يفصح عن معالم البنائية في أطروحته. ولا يمكن إرجاع هذا المنطلق فقط إلى النزعة الفطرية Inneité، على الرغم من أن بياجي لا ينكر وجود بنيات "قبلية" في الدماغ.
وإذا كانت الخلفية النظرية لبياجي (البيولوجيا) ظلت مستحكمة في الكثير من أعماله، حيث تبرز بشكل جلي بتركيزه على النمو المعرفي، فإن تصوراته تميزت بقيمتها التطبيقية في المجال البيداغوجي. وهو أمر عجل بتقويض دعائم الأساليب التعليمية التقليدية التي تتصور الطفل كائنا سلبيا، على الراشد أن يشحنه بمجموعة من القيم والمعارف، كي يتوافق مع النماذج الراشدة.
لا تنحصر فقط آثار تصورات بياجي على سيكولوجية التعلم في تنميطه لمراحل نمو الطفل (المرحلة سيكوحركية، والمرحلة الرمزية أو قبل منطقية، والمرحلة الإجرائية الحسية، والمرحلة الإجرائية أو التصورية)، وإنما أيضا في أنه يرى أن التعلم يجب أن يتجه إلى تسهيل عملية بناء المعارف عند المتعلم، وأن هذا الأخير يقيم معارفه بشكل فردي، من خلال علاقته بالأشياء وتفاعله مع المحيط.
لا شك أن بنائية بياجي أتاحت إدراك أن أخطاء المتعلمين يجب أن نفهمها بالنظر إلى طبيعة كل مرحلة نمائية. فبعض المفاهيم أو المحتويات التعليمية قد تتعالى على خصائص مراحل نمو الأطفال، مما يستوجب بناء طرق تعليمية مناسبة، تراعي قدرات الفرد. كما أضحت نظرية "الموازنة" أداة تساعد المدرسين على فهم عملية التعلم ذاتها، "فقد أصبحت بدهيات التعلم، مثل التعلم عن طريق الممارسة، تأخذ معنى جديدا وتفصيلا أكثر، يتعدى حدود التسليم العفوي بالمبادئ التي تبدو واضحة من تلقاء ذاتها"
وأصبح القصد من التعليم هو مساعدة الطفل (المراهق) على بناء معارف صورية صحيحة، وذلك بضبط المفاهيم وتنظيمها داخل شبكات تحظى بسند علمي. وهو أمر يستوجب من المدرس التوفر على معرفة علمية ملائمة للمادة وتكوين إبستمولوجي.
لحسن توبي، بيداغوجيا الكفايات والأهداف الاندماجية

إرسال تعليق

أحدث أقدم