في نفي القول بأن زناتة مشرقية

 

اعلم أعزك الله أن مغربنا
اجتمع فيه من القبائل ما تفرق في شمال إفريقيا، هذه القبائل تفرعت عن عصبيات كبرى
منها صنهاجة ومصمودة وزناتة، إن اجتماع العصبيات الأمازيغية الكبرى في المغرب له
دلالة مفادها أن الهجرات السكانية كانت تنطلق من الغرب في اتجاه الشرق عكس ما هو
متداول ومعروف، أي أن الأمازيغ أصولهم الأولى كانت في بلاد المور قبل أن ينتشروا
في باقي أقطار شمال إفريقيا وصولاً إلى الشرق الأوسط، ومن المؤشرات الدالة على ذلك
وجود آثار لأنشطة بشرية في المغرب منذ زمن مبكر؛ فالأبحاث الأثرية الأخيرة كشفت عن
وجود أقدم جمجمة لإنسان عاقل بجبل إيغود يرجع تاريخها إلى 315000 سنة، كما كشفت عن
مهارة الإنسان الذي استوطن هذا المجال، إذ تم الكشف عن وجود حلي بمغارة بيزمون
بالقرب من الصويرة ترجع لحوالي 150000 سنة، واكتشاف جمجمة بمغارة تافوغالت أجريت
عليها أول عملية جراحية ناجحة في تاريخ البشرية يرجع تاريخ إجرائها إلى حوالي
15000 سنة.



وأمام هذه الحقائق العلمية اليقينية لازال الناس يتمسكون
بالمرويات الظنية، ويتداولون روايات الأصل المشرقي الواهية، حتى إنهم ادعوا أن
قبيلة زناتة مثلا أصلها من الشرق مستدلين بروايات واهية لم يفهموا سياق روايتها،
منها رواية نقلها ابن خلدون عن أبي عمر بن عبد البر تدعي فيها طوائف من البربر
أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ، تقول الرواية "أن النعمان بن حمير بن
سبأ كان ملك زمانه في الفترة، وأنه استدعى أبناءه، وقال لهم: أريد أن أبعث منكم
للمغرب من يعمره (...) [فـ]ــــنزل جانا وهو أبو زناتة بوادي شلف، ونزل بنو ورتجين
ومغراو بأطراف أفريقية من جهة الغرب
"[1].



وأمام هذه المرويات التي لم يستند أصحابه إلى أدلة
عقلية، وجب علينا إعادة قراءة ما كتب بخصوص أصل قبيلة زناتة، والإجابة عن السؤال
الآتي: هل زناتة قبيلة مغربية أم قبيلة وافدة؟



زناتة الجيل الأول



اختلط على المؤرخين موطن زناتة، متأثرين في ذلك بواقع
عصرهم، فهذا ابن عذاري المراكشي الذي عاش في القرن الثامن الهجري، اختلط عليه
الأمر، فنسب الجيل الأول من زناتة التي أقامت إمارات في المغرب خلال القرنين
الرابع والخامس إلى شرق المغرب، وهو بذلك اعتقد أنه يتحدث عن زناتة الجيل الثاني
أي زناتة بني مرين وبني عبد الواد، فقال متحدثاً عن صراع المرابطين مع زناتة
مغراوة وبني يفرن: "إلى أن شاع خروج لمتونة من الصحراء واستيلائهم على بلاد
المصامدة (...) وخلعهم لملوكهم وناموس عدلهم، ودخل عبد الله بن ياسين مدينة أغمات
وما يليها، فخافت زناتة، وأجفلت عن جهة الشرق حيث مستقرها"
[2].



إن الفكرة التي ستستقر في ذهن القارئ لرواية ابن عذاري
هو أن زناتة مغراوة أصلها من شرق المغرب، لكنه إذا ما استحضر سياق كلام الراوي،
فسيكتشف بسهولة أن ابن عذاري تأثر بانتشار زناتة بني مرين في شرق المغرب قبل
تأسيسهم للدولة المرينية التي ينتمي إليها، فنسب أصول زناتة مجتمعة إلى شرق
المغرب، لكن إذا ما عدنا إلى الروايات التاريخية التي سبقت ابن عذاري زمنياً،
فإننا نجد المؤرخين يتحدثون عن انتشار زناتة في تامسنا وغيرها من المناطق، إذ كانت
من القبائل التي شاركت في إقامة إمارتي برغواطة والأدارسة قبل أن تتمكن من تأسيس
إمارات لها خلال القرن الرابع الهجري.



فهذا أبو عبيد الله البكري تحدث عن زناتة باعتبارها إحدى
القبائل المنضوية في اتحادية برغواطة، إذ قال: "احتل طريف ببلد تامسنى، وكان
إذ ذاك ملكاً لزناتة وزواغة، فقدمه البربر على أنفسهم، وولى أمرهم"
[3]،
وكانت زناتة حسب صاحب كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار من القبائل التي استوطنت تامسنا،
بقوله: "دخل بلاد تامسنا رجل اسمه صالح بن طريف (...)، فدخل إلى بلاد تامسنا،
فوجد فيها زناتة"
[4]،
وكذلك نجد زناتة من بين القبائل التي بايعت إدريس الأول، قال ابن أبي زرع:
"بويع بمدينة وليلي يوم الجمعة الرابع من شهر رمضان المعظم سنة اثنين وسبعين
ومئة [06 فبراير 789م]، وكان أول من بايعه قبائل أوربة (...)، ثم بعد ذلك أتته
قبائل زناتة وأصناف قبائل البربر وغياثة ونفزة ومكناسة وغمارة فبايعوه ودخلوا في
طاعته"
[5]،
وزناتة أيضا كانت من القبائل التي سكنت مدينة فاس زمن حكم الأدارسة بدليل قول ابن
أبي زرع الفاسي: "كان يسكن مدينة فاس قبيلتان من زناتة وزواغة وبني
يرغثن"
[6].



تمكن
الجيل الأول من زناتة الذي تكون من مغراوة وبني يفرن من تأسيس مجموعة من الإمارات
بالمغرب الأقصى، أدالت حكم الأدارسة بفاس وبني مدرار بسجلماسة وبرغواطة بتامسنا،
فسيطرت بذلك على حواضر المغرب وأحكمت مراقبتها لطرقه التجارية، وقد تأتى لها ذلك
بعد تمكنها من القضاء على الخطر الشيعي الكاسح، وذلك على إثر انتصار زيري بن عطية
الزناتي المغراوي على جيش المنصور بن أبي الفتوح عامل العبيديين على أفريقية، وفي
هذا الصدد قال ابن عذاري متحدثاً عن المعركة الفاصلة التي أقصى فيها زيري بن عطية
المغراوي الشيعة عن المغرب: "وفيها [347هـ] أعطى المنصور لأخيه يطوفت
العساكر، وجهه إلى مدينتي فاس وسجلماسة يطلب ردهما ورد تلك البلاد الغربية، إذ
كانت خرجت عن طاعة صنهاجة عند وفاة أبي الفتوح، فوصل إلى مدينة فاس، وكان بها زيزي
بن عطية الزناتي الملقب بالقرطاس، فلما أحس بوفادة يطوفت بن أبي الفتوح، عاجل
بالخروج إليه والهجوم عليه، فقاتله قتالاً شديداً حتى انهزم يطوقت، وظفرت زناتة
بصنهاجة، فاتبعوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا آخرين، وهرب الباقون إلى
تيهرت"
[7].



 وبعد هذه المعركة الفاصلة وضعت زناتة حداً
للهجمات العسكرية التي كانت تشنها صنهاجة الزيرية على المغرب لفائدة العبيديين في
مصر، وهذا ما عبر عنه ابن عذاري بقوله: "أقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب
وزناتة، واستقل به ابن عطية وابن خزرون ويدر"
[8].



ويرجع
الفضل لزيري بن عطية الزناتي المغراوي في تحصين المغرب من الخطر الشيعي الزاحف من
الشرق، وكذلك في تأسيس مدينة وجدة عام 384هـ، إذ "بنى مدينة وجدة، وشيد سورها
وقصبتها، وركب أبوابها، وسكنها بـأهله وحشمه، ونقل إليها أمواله وذخائره، وجعلها
قاعدة ودار ملكه لكونها واسطة بلاده"
[9].



وزناتة
أيضا هي التي وضعت حداً لإمارة برغواطة على حد قول أبي عبيد الله البكري: "ولم
تزل برغواطة في بلادها معلنة بدينها وبنو صالح بن طريف ملوكها إلى أن قام فيهم
الأمير تميم اليفرني، وذلك بعد عشرين وأربعمائة من الهجرة، فغلبهم على بلادهم،
وسباهم، وجلا من بقي منهم، واستوطن ديارهم، وانقطع أمرهم، وعفا أثرهم"
[10].



زناتة
الجيل الثاني



تتكون
زناتة الجيل الثاني من بني مرين وبني عبد الواد وغيرهما، منها من نجحت في تكوين
كيانات سياسية كبني عبد الواد الذين أسسوا إمارة في تلمسان وبني مرين الذين نجحوا
في تأسيس الدولة المرينية، ويزعم البعض أن بني مرين قدموا من المغربين الأدنى
والأوسط، في حين أن الروايات التاريخية تفند هذه المزاعم؛ فالمقريزي قال: "أن
بني مرين من شعوب بني واسين من زناتة، كانوا يسكنون القفر من فنكيك إلى سجلماسة
إلى ملوية، وهم ثمانية بطون: بنو حمامة وبنو عسكر وبنو بيعين وبنو تَنَالُفْنت
وبنو ونكاسن وبنو ورتاجن وبنو وطاس"
[11].



وابن
خلدون أيضاً قال: "قد ذكرنا أن بني مرين هؤلاء من شعوب بني واسين، وذكرنا نسب
واسين في زناتة (...)، وبقي هذا الحي من بني مرين بمجالات القفر من فيكيك إلى
سجلماسة إلى ملوية، وربما يتخطون في ظعنهم إلى بلاد الزاب"
[12].



وبذلك
فزناتة عصبية قبلية مغربية فاعلة؛ تمكن جيلها الأول المكون من مغراوة وبني يفرن من
وضع حد للمد الشيعي وأسست إمارات خلال القرنين الرابع والخامس، كما أن زناتة الجيل
الثاني التي تزعمها بنو مرين تمكنت من إعادة توحيد المغرب بعد انهيار حكومة
الموحدين، وضمنت للدولة المغربية استمراريتها.













[1] ابن خلدون، العبر
وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان
الأكبر
، تحقيق، خليل شحادة، مراجعة سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، 1421هـ/2000م
، ج6، ص.122.







[2] ابن عذاري المراكشي،
البيان المغرب، ج1، ص.277.







[3] ابو عبيد الله
البكري، المسالك والممالك، ج2، ص.318.







[4] مجهول الاستبصار في
عجائب الأمصار، ص.197.







[5] ابن أبي زرع الفاسي،
الأنيس المطرب، ص.20.







[6] ابن أبي زرع الفاسي،
الأنيس المطرب، ص.31.







[7] ابن عذاري المراكشي،
البيان المغرب، ج1، ص.260.







[8] ابن عذاري المراكشي،
البيان المغرب، ج1، ص.259.







[9] ابن أبي زرع الفاسي،
الأنيس المطرب، ص.105.







[10] ابو عبيد الله
البكري، المسالك والممالك، ج2، ص.318.







[11] تقي الدين أحمد بن
علي المقريزي، درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، ج1، ص.112.







[12] ابن خلدون، العبر،
ج7، ص.221.

1 تعليقات

أحدث أقدم