تاريخية التعريب


تاريخية
التعريب



التعريب موضوع تمت مناقشته
انطلاقا من خلفيات سياسية إيديولوجية، دون تمحيص للروايات التاريخية، فانتهى تيار
أنصار التعريب إلى الجزم بالأصل العربي لسكان المغرب بناء على روايات ظنية، فادعوا
أن الأمازيغ من أصول يمنية حميرية وشامية فينيقية، إلا أن الشواهد التاريخية
والأثرية تؤكد أن المغاربة شعب أصيل له تاريخه وحضارته ولغته الخاصة، وأن التعريب
فعل طارئ، مر عبر مراحل تاريخية، نجملها في الآتي: مرحلة سيادة اللسان الأمازيغي،
ومرحلة اللسان الدارج، ومرحلة سياسة التعريب.



المرحلة
الأولى: سيادة اللسان الأمازيغي



كان اللسان الأمازيغي هو
المتداول في المغرب منذ القديم، ولم يُحدث الغزاة تأثيراً بارزاً في لسان
المغاربة، إذ كان اهتمامهم منصرفاً إلى الغزو وجمع الغنائم وسبي النساء والذراري،
فاقتصر بذلك أثر التعريب على أسماء بعض القادة الأمازيغ مثل طارق بن زياد، إذ كان
من عادة المشارقة تغيير أسماء عمالهم، وخير مثال على ذلك تغيير العبيديين اسم
عاملهم على أفريقية من بلكين بن زيري بن مناد إلى سيف الدولة أبي الفتوح يوسف[1].



إن جشع الأمويين، دفع
الأمازيغ إلى الالتفاف حول زعيم وطني لقيادة الثورة ضد الغزاة، فانعقد أمرهم على
اختيار ميسرة المطغري، وبايعوه بالخلافة، فقام بأمرهم لحرب الأمويين، ثم ثاروا ضد
عاملهم طنجة فقتلوه، وقتلوا اسماعيل بن عبيد الله بن الحباب، وكان إسماعيل متوجها
إلى السوس بغرض الغزو، فاعترضه ميسرة، فقتله، ثم تواجه المغاربة مع الجيش الذي
بعثه هشام بن عبد الملك من الشام ومصر وطرابلس وأفريقية، ففلوا جمعهم وهزموهم في
موقعة الأشراف سنة 123ه/741، وبعد هذا الحدث استقل المغرب بشكل نهائي عن المشرق،
وتأسست فيه إمارات أمازيغية مستقلة، هذه الإمارات استعملت اللسان الأمازيغي في
التخاطب اليومي والتأليف والعلاقات الديبلوماسية، وهنا سأركز الحديث على برغواطة
التي عاد زعيمها طريف إلى تامسنا لاستئناف قيادة قومه.



-في التأليف: ألف صالح بن
طريف لأهل برغواطة قرآنا بلسانهم، قال ابن حوقل: "وعمل لهم كلاماً رتله
بلغتهم (...) وفيهم الآن من يقرأ القرآن بغاية الاحترام، ويحفظ منه السور، ويتأول
آياته على موافقته لكتابهم وقرآنهم"[2].



-في العبادة: قال أبو عبيد
الله البكري متحدثاً عن هيئة إحرام البرغواطي: "وإحرامهم أن يضع إحدى على الأخرى
ويقول: ابسمن ياكُش، تفسيره بسم الله، مقر ياكُش، تفسيره الكبير الله (...)
ويقولون في تسليمهم بالبربرية: الله فوقنا لم يغب نه شئ في الأرض ولا في السماء،
ثم يقولون ياكش خمساً وعشرين مرة، إيحن ياكُش مثل ذلك ومعناه: الواحد الله، وردام
ياكش مثل ذلك ومعناه: لا أحد مثل الله"[3].
وقال ابن عذاري: "يقولون في تسليمهم بكلامهم الله فوقنا، لم يغب عنه شيء في
الأرض ولا في السماء، ثم يقولون مقر باكش خمساً وعشرين مرة، وتفسيره الكبير الله،
ويقولون اسمين باكش، تفسيره بسم الله"[4].



-في العلاقات الديبلوماسية:
كان سفير برغواطة الذي بعثه الأمير أبو منصور البرغواطي إلى الحكم المستنصر بقرطبة
يتكلم باللغة الأمازيغية، وكان يحتاج إلى مترجم للتواصل مع أمويي الأندلس، وفي هذا
الصدد قال أبو عبيد الله البكري: "أخبر أبو صالح زمور بن موسى بن هشام بن
وارد يزن البرغواطي، كان صاحب صلاتهم حين قدم على الحكم المستنصر بالله رسولاً من
قبل صاحب برغواطة أبي منصور ابن عيسى بن أبي الأنصار عبد الله بن أبي عفير يحمد بن
معاذ بن اليسع بن صالح بن طريف، وكان وصوله إلى قرطبة في شوال سنة اثنتين وخمسين
وثلاثمائة، وكان المترجم عنه بجميع ما أخبر به الرسول الذي قدم معه"[5].



وبحلول القرن الخامس
الهجري، تأسست دولة المرابطين، التي قامت على عصبية صنهاجة الأمازيغية، كان
المغاربة زمن حكم المرابطين يتكلمون الأمازيغية فقط، حتى إن يوسف بن تاشفين نفسه
لم يكن يتكلم باللغة العربية، كما أورد ذلك المقري في نفح الطيب قائلا: لما انصرف
[يوسف بن تاشفين] عن المعتمد بن عباد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد رسالة فيها:















بنم وبنا فما ابتلت جوانحنا



شوقا إليكم ولا جفت مآقينا



حالت لفقدكم أيامنا فغدت



سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا






فلما قرئ عليه هذان البيتان
قال للقارئ: "يطلب منا جواري سوداً وبيضاً، قال: لا يا مولانا، ما أراد إلا
أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده
ليلاً لأن أيام الحزن ليال سود"[6].



وقد استمر هذا الوضع إلى
البدايات الأولى للحركة الموحدية، فمحمد بن تومرت وجد القوم لا يفقهون العربية،
فألف لهم كتباً باللسان الأمازيغي ليسهل عليهم الحفظ ويقرب إليهم المعنى، قال صاحب
الحلل الموشية: "وأول ما دبر به أمرهم أنه ألف لهم كتاباً سماه التوحيد
باللسان البربري، وهو سبعة أحزاب (...) وأمرهم بقراءة حزب واحد منه كل يوم اثر
صلاة الصبح بعد الفراغ من حزب القرآن، وهو يحتوي على معرفة الله تعالى وسائر
العقائد، كالعلم بحقيقة القضاء والقدر والإيمان بما يجب لله تعالى، وما يستحيل
عليه، وما يجوز وما يجب على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (...) وألف
لهم كتاباً سماه بالقواعد وآخر سماه بالإمامة، وهما موجودان بأيدي الناس إلى هذا
العهد، ودونهما بالعربي والبربري، وكان أفصح الناس في اللسان العربي واللسان
البربري، ينقل بهما إليهم المواعظ والأمثال، ويقرب لهم المقاصد، فجذب نفوسهم،
واستجلب قلوبهم، وسهل عليهم التعليم بنفسه وبأعيان أصحابه"[7].



المرحلة
الثانية: اللسان الدارج



استقدم الموحدون أعداداً
محدودة من القبائل العربية، التي يمكن التمييز فيها بين قبائل بني هلال التي
استقرت بشمال المغرب، وقبائل بني معقل التي انتجعت مجالات المغرب الشرقي ثم انتقلت
بعد ذلك إلى الصحراء.



-قبائل بني هلال: استقدمهم
عبد المؤمن بن علي الكومي ثم يعقوب المنصور، وتم توطينهم ببسائط المغرب، وفي هذا
الصدد قال ابن أبي زرع الفاسي: "سار [عبد المؤمن] حتى وصل إلى مقربة من
وهران، فطلبه عرب إفريقية في الوداع بالرجوع إلى حللهم، فأسعفهم بذلك، ونقل منهم
إلى المغرب ألفاً من كل قبيلة بعيالهم وأبنائهم وهم عرب جشم"[8]،
وقال الحسن الوزان: "نقل المنصور أهم قبائل الأعراب إلى الممالك الغربية،
فأسكن أشرفهم بدكالة وأزغار وأدناهم بنوميديا"[9].



-بني معقل: قبائل يمنية
أدخلها الموحدون إلى المغرب في أعداد قليلة جداً لم تتجاوز المائتين حسب رواية بن
خلدون بقوله: "وكان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل، يقال إنهم
لم يبلغوا المائتين"[10].



كانت هذه القبائل محدودة
العدد، إلا أن تأثيرها في لسان المغاربة أصبح بارزاً في اللسان الدارج، الذي نميز
فيها بن اللسان الدارج الذي انتشر في مواطن استقرار عرب بني هلال، واللسان الدارج
الذي انتشر في مواطن استقرار عرب بني معقل وهو الذي يسمى اليوم بالحسانية.



لكن مع ذلك ظلت اللغة
الأمازيغية هي المهيمنة، فالحسن الوزان الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي،
ذكر أن مملكة مراكش كانت تستعمل فيها اللغة البربرية، بقوله: "وفي جميع المدن
الإفريقية الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى جبال الأطلس يتكلم الناس على
العموم بلغة عربية فصيحة، ما عدا في مملكة مراكش، وفي مدينة مراكش نفسها، فإن
اللغة المستعملة هي البربرية"[11].



واستمر الوضع على هذا الحال
إلى غاية القرن الماضي، حيث ظهرت حركة دعت إلى تعريب المغاربة، وإماتة اللسان
الأمازيغي.



المرحلة
الثالثة: سياسة التعريب



التعريب سياسة استهدفت
القضاء على اللسان الأمازيغي وتعميم اللسان العربي، قادها مفكرون مغاربة، تأثروا
بتيارات إيديولوجية مشرقية المنشأ، يمكن التمييز فيها بين تيارين:



-تيار الحركة الوطنية
السلفية: أضفى هذا التيار على اللغة العربية صبغة القداسة باعتبارها لغة القرءان،
وأنها لغة حضارة متفوقة، يعد علال الفاسي من أبرز أعلام هذا التيار، الذي صرح في
كتاب النقد الذاتي قائلا: "إن من عادة الدول الفاتحة أن تسعى إلى نشر لغتها
في الشعب المغلوب ومحو لغته، ولكن التاريخ يحدثنا بأن الفاتحين لا يقوون على تحقيق
هذا الحلم إلا إذا استقام لهم أمران: أولاً تفوق حضارتهم على حضارة المفتوحين،
وثانيا أن تكون لغتهم ولغة المغلوبين من عائلة واحدة، فإذا لم يتم الأمران معاً لم
يتم محو اللغة الأصلية، وهكذا نجد الرومان الذين نشروا لغتهم في سائر البقاع لم
يستطيعوا أن يمحوا اللغة اليونانية، لأن الإغريق لا يقلون عنهم حضارة ورقياً، ولم
يستطيعوا كذلك محو اللغة المغربية، لأنها تختلف عن عائلة الرومية، وتجد العرب كذلك
تغلبوا على اللغات السامية في الشرق والبربرية في شمال إفريقيا من أجل الاتحاد في
الأسرة اللغوية ومن أجل التفوق الحضاري، وعلى العكس لم ينجحوا في القضاء على لغتي
الإسبان والفرس لأنهما من أسرة لغوية أخرى"[12].



إذا، فعلال الفاسي زعم أن
العربية والأمازيغية من أصل واحد، وأن الحضارة العربية أرقى من الحضارة
الأمازيغية، وبذلك يسهل محو اللغة الأمازيغية.



-التيار اليساري الاشتراكي:
دعا هذا التيار إلى إماتة اللغة الأمازيغية، تزعمه محمد عابد الجابري، وقد صرح
بذلك في كتاب أضواء على مسألة التعلم، قائلا: "أن عملية التعريب الشاملة يجب
أن تستهدف ليس فقط تصفية اللغة الفرنسية كلغة حضارة وثقافة وتخاطب وتعامل بل أيضا
–وهذا بالأهمية بمكان- العمل على إماتة اللهجات المحلية البربرية منها أو العربية
الدارجة، ولن يتأتى ذلك إلا بتركيز التعليم وتعميمه إلى أقصى حد في المناطق
الجبلية والقروية، وتحريم استعمال أية لغة أو لهجة في المدرسة والإذاعة والتلفزة
غير اللغة العربية"[13].



طوال هذا التاريخ تم تعريب
المغاربة، وكانت هناك محاولات لطمس اللغة الأمازيغية وإماتتها، لكن كل المحاولات
باءت بالفشل، لأن هوية هذا البلد أمازيغية، طوبونيميته أمازيغية، تاريخه وتراثه
كتبه الأمازيغ منذ آلاف السنين.



 وبعد مطالبات ونضالات من أجل استعادة الذات،
جاءت العناية الملكية بالأمازيغية لغة وهوية في خطاب أجدير يوم 17 أكتوبر 2001،
الذي قال فيه: "كما أننا نريد التأكيد على أن الأمازيغية التي تمتد جذورها في
أعماق تاريخ الشعب المغربي هي ملك لكل المغاربة بدون استثناء"[14]،
وجاء دستور 2011 ليؤكد هذه الرؤية الملكية، إذ ورد في مادته الخامسة: "تعد
الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة بدون
استثناء"[15].



ختاماً، إن التعريب فعل
طارئ تحكمت فيه ميول إيديولوجية غير نابعة من البيئة المغربية، سعت إلى إماتة
اللغة الأمازيغية، وطمس الهوية المغربية الأصيلة لصالح أخرى وافدة، فعل التعريب
هذا جعلنا نجلد ذواتنا، ونلقي لغتنا الأمة وراء ظهورنا، ومعها نلقي تاريخاً بكامله
ونصبح عالة على غيرنا.













[1]-  ابن خلدون، العبر، ج6، ص.206.







[2] - أبو القاسم بن حوقل، صورة الأرض، منشورات دار
مكتبة الحياة، بيروت، ص ص.82-83.







[3] - أبو عبيد الله البكري، المسالك والممالك، دار
الكتاب الإسلامي، القاهرة، ج2، ص ص.222-223.







[4] - ابن عذاري، البيان المغرب، دار الغرب الإسلامي،
تونس، الطبعة الأولى، 2013م، ج1، ص.227.







[5] - أبو عبيد الله البكري، المسالك والممالك، ج2،
ص.218.







[6] - شهاب الدين أحمد المقري، نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب
وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب
، دار صادر، بيروت، 1968م، ج3، ص.191.







[7] - مجهول الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية،
تحقيق سهيل زكار وعبد القادر زمامة، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، الطبعة
الأولى، 1979م، ص ص.109-110.







[8] - ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في
أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس
، دار المنصور للطاعة والوراقة، الرباط،



1972م، ص.199.







[9] - الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية محمد
حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983م، ج1، ص.47.







[10] - ابن خلدون، العبر، ج6، ص.77.







[11] - الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ج1، ص.39.







[12] - علال الفاسي، النقد الذاتي، المطبعة العالمية،
القاهرة، الطبعة الأولى، ص.335.







[13] - محمد عابد الجابري، أضواء على مشكل التعليم بالمغرب،
دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985م، ص.146.







[14] - خطاب أجدير 17 أكتوبر 2001.







[15] - دستور المملكة المغربية 2011.





10 تعليقات

  1. غير معرف7/29/2023

    مقال رائع، مشكور دكتور على المجهود الجبار. ⵜⴰⵏⵎⵉⵔⵜ

    ردحذف
  2. غير معرف7/29/2023

    Tanmirt Dr kulab

    ردحذف
  3. غير معرف7/29/2023

    استمر ذ كلاب سوف استخدم هذا الموقع كمرجع للمعلومات التاريخية

    ردحذف
  4. مشكور دكتور على المجهود

    ردحذف
  5. غير معرف7/29/2023

    تبارك الله عليك دكتور إستمر في نشر الحقيقة

    ردحذف
  6. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  7. غير معرف7/29/2023

    ❤ رائع

    ردحذف
  8. غير معرف7/29/2023

    للاسف فطرنا في تاريخنا نحن امازيغ في الجهة الشرقية ولا نتحدث الامازيغية حتى عندما نريد الدفاع عنها لا نجد الاداة المناسبة فنسكت والساكت عن الحق...........

    ردحذف
  9. غير معرف7/29/2023

    Up

    ردحذف
  10. إذا كان مرجعك البرغواطيين عًلِم معدن المؤرخ المبجل.

    ردحذف
أحدث أقدم