اليهود المغاربة

 نما إلى سمعي أقوال بعض المتفقهين في الدين والسياسة حرموا إقامة علاقات طبيعية مع اليهود، غير آبهين بالسياق التاريخي الذي أعطى لهذا البلد خصوصية، وهؤلاء صنفان؛ صنف ذو مرجعية إسلاموية، ولا أقول دينية لأن الدين يدعو إلى التسامح والتعايش والتساكن، وصنف ذو نزوع يساري، والرابط المشترك بينهما هو إن أدلوجتهما مستوردة من الخارج.

إن مناقشة قضية إقامة علاقات طبيعية مع اليهود ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار السياق المغربي الخاص؛ فاليهود المغاربة شكلوا عبر التاريخ مكونا أساسا من مكونات المجتمع المغربي، ولم يقلق راحتهم سوى الفقهاء المغرضين الذين رأوا فيهم خطرا على مصالح النخبة التي ينتمون إليها، لذلك نجد الفقهاء قد تعسفوا على النصوص الدينية ووظفوها لإدانة اليهود وإبعادهم عن مراكز القرار السياسي والاقتصادي.

إن منطوق الروايات التاريخية يبرز أنه كلما تعاظم دور الفقهاء في الدولة، اضطهد اليهود، وبذلك فكل الحكومات التي اتخذت من الدين مرجعية لها تعرض فيها اليهود لأشكال من التهميش والتمييز، وهنا أعطي بعض الأمثلة عن وضعية اليهود تبعا لذلك، سأميز فيها بين وضعيتهم في حكومات علا فيها صوت السلطة الزمنية التي هي الأدارسة والمرينيين والسعديين والعلويين، وحكومات علا فيها صوت الفقيه على رجال السياسة التي هي المرابطين والموحدين.

1-غلبة السلطة الزمنية:

تأسس حكم الأدارسة والمرينيين والسعديين على مرجعية أساسها توحيد البلاد ومواجهة الخطر الخارجي المحدق بها، وبذلك كان صوت السياسي فيها يعلو صوت الفقيه، وفي هذا السياق تعايشت الطوائف الدينية وتساكنت تحت حماية السلطة الزمنية ورعايتها، والأدلة على ذلك كثيرة، كما لا ننفي وجود بعض الأحداث المحدودة التي استهدف فيها اليهود من طرف العامة بإيعاز من الفقهاء.

ففي عهد الأدارسة “كان يسكن مدينة فاس قبيلتان من زناتة وزواغة وبني يرغثن وكانوا أهل أهواء مختلفة، منهم على الإسلام، ومنهم على النصرانية، ومنهم على اليهودية، ومنهم علىى المجوسية، ومنهم بنو يرغثن وكانوا يسكنون بخيامهم بحومة عدوة الأندلس الآن وكان بيت نارهم بالشيبوبة”[1].

وفي عهد المرينيين استفاد اليهود من جو التسامح الذي طبع حكمهم، فظهرت فتوى تحرم قتالهم، وتساويهم في الحقوق مع المسلمين ما لم ينقضوا عهد الذمة، وعدَّت قتالهم حرابة ومن باب السعي في الفساد في الأرض[2]، كما خصهم سلاطين المرينيين باهتمام بالغ، ففي عام 674ه/1275م، تدخل السلطان أبو يوسف يعقوب لكف يد عامة فاس عن قتلهم، ونادى مناديه لا يتعرض لهم أحد[3]، ولحمايتهم من بطش العامة بنى لهم السلطان أبو سعيد الثاني (800-823ه/1398-1420م) ملاحا بفاس الجديد[4]، كما أسندت إليهم مهام سياسية وإدارية ودبلوماسية[5].

وفي عهد السعديين، خصص السلطان عبد الله الغالب حيا منعزلا لليهود بمدينة مراكش[6] لا يزال قائما إلى الآن يسمى ملاحا، وتوالى بناء الملاحات في كبريات المدن المغربية لتوطين اليهود الفارين من بطش المسيحيين بشبه الجزيرة الإيبيرية، وبذلك شكل المغرب بالنسبة لهم ملاذا آمنا، فكثرت أعدادهم في حواضر المغرب وبواديه، فديكو دي طوريس الذي زار المغرب سنة 953ه/1546م، ذكر أن ملاح فاس الجديد يمكنه أن يسع ألف شخص، وأن إجمالي سكان المدينة يبلغ أربعة آلاف[7]، أي أن اليهود كانوا يشكلون ربع سكان فاس الجديد، وأما مراكش فكان فيها ملاحان يضمان أزيد من ألف نسمة من اليهود الذين طردوا من إسبانيا[8].

2-–غلبة السلطة الدينية:

اتخذت الحكومات التي علا فيها صوت الفقهاء على رجالات السياسة مواقف متشددة من اليهود، فالفقيه يوظف نصوصا دينية وحججا عقلية لاتخاذ قرارات لخدمة مآرب شخصية؛ وبذلك فحكومة المرابطين التي تعد حكومة فقهاء، اعتمدت إجراءات واتخذت قرارات استهدفت اليهود المغاربة، ومنعتهم من الإقامة في عاصمة الدولة، فـ”كانت اليهود لا تسكن مدينة مراكش عن أمر أميرها علي بن يوسف بن تاشفين، ولا تدخلها إلا نهارا، وتنصرف منها عشية، وليس دخولهم في النهار إليها إلا لأمور له وخدم تختص به، ومتى عثر على واحد منهم بات فيها استبيح ماله ودمه، فكانوا ينافرون المبيت بها حياطة على أموالهم وأنفسهم”[9].

لا شك أن رفض علي بن يوسف بن تاشفين إقامة اليهود بمراكش قد كان بإيعاز من فقهاء دولته الذين كان يستشيرهم في جميع أموره، فقد “كان لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه، ألا يقطع أمرا، ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما”[10]. وهذا الوضع دفع بعض الفقهاء الثقات إلى العزوف عن الفقه والميل إلى التصوف؛ فعبد العزيز التونسي (489ه/1096) درس الناس الفقه، ثم تركه لما رآهم نالوا به الخطط والعمالات، وقال صرنا بتعليمنا لهم كبائع السلاح من اللصوص[11].

وبخلاف المرابطين سمح الموحدون لليهود بسكنى مراكش، لكننا لا نتوفر على دليل يفيد تخصيص حي منعزل لسكناهم، ولتمييزهم عن باقي سكان المدينة فرض عليهم يعقوب المنصور زيا خاصا وهو “ثياب كحلية، وأكمام مفرطة السعة، تصل إلى قريب من أقدامهم، وبدلا من العمائم كلوتات على أشنع صورة، كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم”[12]. كما خضعوا لرقابة صارمة من طرف حكومة الموحدين، إذ إنهم أرغموا على ممارسة الشعائر الإسلامية حسبما صرح بذلك عبد الواحد المراكشي بقوله: “ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، وإنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد ويقرئون أولادهم القرءان، جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تُكن صدورهم وتحويه بيوتهم”[13].

وهنا يظهر أن وضع اليهود تأثر بطبيعية الحكم؛ فإذا علا صوت الفقيه اضطهد اليهود، وإذا تمكنت السلطة الزمنية من الحكم نعموا بالتسامح وتعايشوا وتساكنوا مع المسلمين.

وما استغرب له هو إن الدولة المغربية حسمت في اختياراتها من خلال نص الدستور معتبرة إن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”. ومع ذلك لا زالت أصوات بعض المتفقهين التي تتبنى مرجعية دينية راديكالية مستوردة لا علاقة لها بالسياق المغربي، تملأ الدنيا عياطا والشوارع صراخا مطالبة الدولة بعدم إقامة علاقات طبيعية مع اليهود.

[1]  ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب، ص.31.

[2]  أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981، ج2، ص.244.

[3]  ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب، ص.322.

[4]  إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 1978م، ج2، ص.219.

[5]  عطا علي شحاته ريه، اليهود في بلاد المغرب الأقصى في عهد المرينيين والوطاسيين، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، 1999م، من ص.46 إلى ص.58.

[6]  ديكو دي طوريس، تاريخ الشرفاء، ص.146.

[7]  ديكو دي طوريس، تاريخ الشرفاء، ص.146.

[8]  ديكو دي طوريس، تاريخ الشرفاء، ص.57.

[9]  الشريف الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ج2، ص.235.

[10]  عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص.130.

[11]  ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف، ص92.

[12]  عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص.233.

[13]  عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص.244.

إرسال تعليق

أحدث أقدم