تاريخ مراكش المنسي

مراكش وأحوازها (668-930هـ/1269-1524م) إشكالية التراجع العمراني



ألقى الباحث عبد الخالق كلاب -من خلال أطروحته- الضوء على فترة مظلمة من تاريخ مراكش وأحوازها (668-930هـ/1269-1524م)، وذلك من خلال مقاربة تتجاوز السرد التقليدي للأحداث إلى البحث في متغيراتها وأسبابها، والكشف عن آثارها في الواقع السياسي، وفي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وقد اشتملت أطروحته على ثلاثة أبواب، هي:
الباب الأول: المقومات الطبيعية والبشرية، ويتكون من فصلين؛ تناول الفصل الأول المفاهيم المجالية المهيكلة للبحث، والإكراهات الطبيعية التي يفرضها المجال، وجهود الدولة لتجاوزها، في حين تطرق الفصل الثاني إلى التشكيلة القبلية، ومكونات المجتمع الحضري وديموغرافيته.
الباب الثاني: التحولات السياسية التي عرفتها مراكش وأحوازها، ينقسم إلى ثلاثة فصول؛ تطرق الفصل الأول إلى الاستيطان المرابطي ورد الفعل المصمودي، وخصص الفصل الثاني للحديث عن مراكش وأحوازها في مواجهة المد المريني، أما الفصل الثالث فألقى من خلاله الباحث الضوء على تاريخ انتقال مراكش وأحوازها من ولاية تابعة للسلطة المرينية إلى إمارة شبه مستقلة.
الباب الثالث: انعكاسات التراجع العمراني، ينقسم إلى ثلاثة فصول؛ تطرق الفصل الأول إلى الانكماش الاقتصادي الذي شهدته مراكش، وذلك بتتبع وضعية الفلاحة والصنائع والجباية، وانصب الفصل الثاني على رصد وضعية معمار مراكش وأحوازها، في حين خصص الفصل الثالث للحديث عن الحياة الفكرية من خلال التطرق إلى سيادة التصوف، وعدم قدرة البيئة المراكشية على إنتاج ما يكفي من نخب لتدبير الحياة الحضرية.
ورغم جسامة البحث بالنظر إلى ندرة المصادر، وتجافي الباحثين عن خوض غمار البحث فيه، فقد استطاع الباحث التوصل إلى خلاصات؛ همت المجال، والإنسان، والتاريخ، والعمران.
فعلى مستوى المجال أثار الباحث الانتباه إلى ضرورة إعادة النظر في حدود "حوز مراكش"؛ لأن المفهوم المتداول مفهوم جغرافي ثابت الحدود، وغير نابع من النصوص التاريخية، لذا عمل على تحديده بالرجوع إلى المعاجم لإبراز دلالته اللغوية (الحوز لغة من فعل حاز الشيء حيازة ضمه وملكه)، وبالاعتماد على النصوص التاريخية المعاصرة للحقبة المدروسة، فخلص إلى أن حوز مراكش يشمل المجالات التي تقع في حيازة مراكش وتحت نفوذها، وبذلك فمجاله يتغير بحسب قوة السلطة الحضرية، وذلك بخلاف الدراسات التي تحصر مجال حوز مراكش في المنطقة الممتدة من الأطلس الكبير إلى الجبيلات.
 وأما على المستوى البشري فقد اعتبر الباحث أن تأسيس مراكش في وسط تحيط به مصمودة خطأ دعا السلطة الحاكمة إلى اتخاذ مجموعة من الاجراءات لضمان استمرار المدينة، من جملتها تنظيم هجرات سكانية بهدف خلق توازن بشري يدعم السلطة الحاكمة بالمدينة ويقويها. وأشار إلى أن هذه الإجراءات قد باءت بالفشل، لتبقى الكلمة الفصل لعصبية مصمودة صاحبة المجال، لذلك شاركت في جميع لحظات تاريخ مراكش؛ إذ أسقطت الدولة المرابطية، واجتثت العنصر الصنهاجي من المجال، وأدالتها بدولة تحت سلطان عصبيتها، كما ظلت مناوئة للوجود المريني، رافضة له، مقتنصة لفترات ضعفه.
وعقد الباحث مقارنة بين سلوك عصبيات المغرب ونظرتها للحكم آنذاك، بقوله: وإذا كان للمصامدة طموح واضح في السيطرة على الحكم، فإن القبائل العربية لم ترق إلى هذه المرحلة، مما جعل تحركاتها تنحصر في الغارة على التجمعات الحضرية بغرض فرض الإتاوات وجمع المحاصيل، أما زناتة فحجمها وانتشارها بالحوز لم يسمح لها بالقيام بدور مؤثر، الأمر الذي لم يسمح للمرينيين بضبط المجال.
كما سجل الباحث غياب نخبة حضرية قوية قادرة على التحكم في زمام الأمور بمراكش، وذلك عكس مدينة فاس التي نشأت بها نخبة حضرية قادرة على تسيير أمور المدينة، والوقوف في وجه القوى الطامحة في الوثوب عليها، الأمر الذي جعل مصير مراكش في يد قبائلها لا في زمام نخبها.
وأما بخصوص تاريخ مراكش السياسي، فقد تمكن الباحث من جمع الروايات المتفرقة في مصادر شتى، وقام بتبويبها، فتبين له أن تاريخ مراكش مر بثلاث مراحل متباينة؛
اتسمت المرحلة الأولى بالدور المركزي الذي لعبته مراكش خلال عهد المرابطين والموحدين.
وأما المرحلة الثانية فشكلت فيها مراكش مقر ولاية، وقد شهدت خلالها اضطرابات سياسية تمثلت في الخروج المتكرر لولاة مراكش على السلطة، كما شكلت مسرحا لصراع داخلي محتدم داخل البيت المريني. وفي خضم ذلك سعى بنو عبد الواد، وهم الخصوم التقليديون للمرينيين، إلى إذكاء الصراع واستغلال الخلاف؛ إذ لم يتوانوا عن تقديم يد المساعدة لكل ثائر رأوا فيه سندا لهم، لإضعاف الدولة المرينية، بغرض شغلها عن التوسع شرقا.
وأما المرحلة الثالثة فتميزت بتكوين إمارة شبه مستقلة عن الدولة المرينية بتزكية من وزراء الدولة وسلاطينها، وقد لجأ المرينيون إلى هذا الشكل من التدبير بسبب ضعف دولتهم، وعدم قدرتها على ضبط مراكش وأحوازها، وأيضا لقناعتهم بصعوبة إيجاد ولاة يدينون بالولاء التام لها.
وبموازاة مع الدينامية البشرية والتغيرات السياسية التي كانت مراكش وأحوازها مسرحا لها، تراجع إنتاجها الفلاحي وتداعت بنياته الموروثة، وأفلست حرفها، وكسدت تجارتها، واستفحلت الجباية وتعددت وجوهها، وطمّ الخراب بعض معالمها، واندرست علومها، وأجفلت عنها نخبها.
وقد فسر الباحث التراجع العمراني المهول الذي عرفته مراكش وأحوازها بـ:
- فقدان مراكش لدورها المركزي بانتقال العاصمة إلى مدينة فاس.
- تحول الثقل السياسي إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، بسبب قيام دولة الحفصيين بتونس وبنو عبد الواد بتلمسان، وبنو الأحمر بغرناطة.
- وجود المدينة في وسط بشري معارض لوجودها، وغياب سواد يحميها ويدفع عنها خطر القبائل المتربصة بها والقوى الطامحة في السيطرة عليه.
- عدم قدرة البيئة المراكشية على إنتاج نخبة حضرية محلية تدبر شؤون الحاضرة في غياب السلطة المركزية، مما جعل المدينة ترزح تحت وطأة قهر القبائل المحيطة بها والقوى الطامحة في حكمها.
وقد نجح الباحث عبد الخالق كلاب من خلال أطروحته في إلقاء الضوء على فترة مظلمة من تاريخ مراكش، لم يلتفت إليها من سبقه من الدارسين، وبذلك كافأته لجنة مناقشة أطروحته بمنحه درجة الدكتوراه بميزة مشرف جدا يوم الثلاثاء 08 نونبر 2016.
صاحب الأطروحة: الباحث عبد الخالق كلاب
الأستاذة المشرفة: الدكتورة زوليخة بنرمضان

إرسال تعليق

أحدث أقدم